يشهد العالم الذي يسيطر عليه النظام الرأسمالي تخبطاً في السياسة والاقتصاد، ولا أدل على ذلك من مشاهدة ما يجري في اليمن وليبيا والعراق وسوريا، فمراقبة المشهد ومتابعة ما يحصل يشعرك أن هذه الدول الكبرى لا تملك خططاً أو مشاريع فهي تعبث فقط وترتجل السياسة ارتجالا بل وتتخبط، صحيح أن معها أدوات من العملاء ينفذون أو يحاولون تنفيذ ما يريده أسيادهم لكنهم بالغالب يفتحون الملفات ولا يغلقونها، وليس الهدف من هذا المقال هو تسليط الضوء على الإخفاقات السياسية التي مُنيت بها الدولة الأولى في العالم وباقي الدول التي كانت مؤثرةً في الموقف الدولي فإن هذا الأمر محلٌ للخلاف بين من يتابع السياسة وشؤونها، فلربما اعتبر البعضُ هذه الإخفافات استراتيجية مقصودة، وبأن هذه الدول وعلى رأسها أمريكا تتعمد هذا ولا ضير عندها في أن يبقى المسلمون يقتل بعضهم بعضاً، ومع أنني لست مع هذا التسطيح والتبسيط لفهم ما يحصل إلا أن الأمر محتمل لهذا الفهم.
وفي هذه العُجالة سأسلِّط الضوء على ما يجري في العالم الرأسمالي بشأن التخبط الاقتصادي، والذي يظهر أن هذه الدول وصلت إلى حائط مسدود وما عليها إلا أن ترفع راية الاستسلام وتصارح نفسها بأنها ما عادت تصلح بهذا النظام الذي نخره السوس أن تدير الاقتصاد وتحل أياً من مشاكله مثل مشكلة الفقر والبطالة والأمراض...
إنَّ أمريكا التي أعلنت أنها ستخوض حروباً اقتصادية مع العالم كله وبالذات مع الاتحاد الأوروبي والصين ظنَّاً منها بأن فرض الرسوم الجمركية على السلع الأوروبية والصينية ربما يخفف من وطأة الأزمة المالية التي تكتسح الدولة، وليس صحيحا بأنها في عهد ترامب زادت من حجم النمو وقللت من تدهور ميزان المدفوعات بل ولا حتى قللت من نسب البطالة، ولا أدل على ذلك من زيادة ديونها الخارجية والداخلية إلى ما يقارب من 23 تريليونا، أي بزيادة 5 تريليونات عن ديون سلفه أوباما، وتذكرني هذه القراءات بالأكاذيب التي كان يجري تداولها إعلامياً بأن أردوغان جرى في عهده سداد ديون تركيا، وبأن حجم النمو في الناتج المحلي زاد بنسب كبيرة وبأنَّه خفَّض البطالة، ثم تبيَّن أن الأمر لا يعدو كونه دعايات لا قيمة لها وتجانب الحقيقة وبأن الديون التركية زادت لثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل عهد العدالة والتنمية!
إن إعلان أمريكا الحرب الاقتصادية على الدول الكبرى وعلى رأسها الصين ورَدّ الصين على ذلك بالمثل والانقلاب على ما خطَّته أيديهم في وضع قوانين منظمة التجارة العالمية وملحقاتها لضبط التجارة البينية، لهو دليلٌ على إخفاق النظام الرأسمالي برمَّته ليس على المستوى السياسي فحسب بل على كل المستويات، وبأن ما كُـنَّا نقوله وما زلنا بأن هذا النظام الرأسمالي يحمل بذور فنائه بطبيعته، وأمريكا الآن وهي الدولة الأولى في العالم تتردى على كل المستويات، وليست هذه أماني وإنما من يتابع ما تقوله المراكز البحثية والاستراتيجية في أمريكا سيجد أنها تؤكد ما نقوله، ولو أردنا فقط وللمثال أن نتابع التصريحات والتصريحات المتبادلة بين رئيس الاحتياطي الفيدرالي وبين ترامب بشأن تخفيض نسبة الربا على الدولار نتبين حجم المشاكل التي تعصف بالدولة؛ فالرئيس يظن أنه بتخفيضه سعر الربا ربما يُنشِّط التجارة الخارجية والاستثمار، والبنك الفيدرالي يقول بأنه إن تمَّ تخفيضُها فلربما يؤثر ذلك على مدخرات الناس من الدولار، وهو - أي البنك الفيدرالي - ليس مع تخفيض نسبة الربا ما حدا بترامب نتيجة هذا الخلاف أن يتهمه بأنه عدوٌ لأمريكا كالصين تماما!
إنَّ أمريكا هي الدولة الأولى في العالم وليس في المدى المنظور أن تنزل عن هذه الرتبة، ولكن للدول أعمارٌ كما للأشخاص، والتصرفات على الدولة الأولى محسوبةٌ، وإن التردِّي والتخبُّط الذي نشهده اليوم يُنبئ عن نظام جديد سيرث الأرض ومن عليها، وليس ذلك النظام إلا الإسلام بعقيدته ونظامه، وقد جرَّب الناس غير الإسلام نظاماً إلا أنهم لم يروا السعادة فيه، فالفطرة لا تقبل أن يُشرِّع الإنسان للإنسان، فلا فضل للمُشرِّع على المُشرَّع له وكلاهما عاجزٌ وناقصٌ ومحتاجٌ، أما إذا كان التشريع من خالق الجميع فإنه لا فَضل لأحدٍ على أحدٍ ولا نقاش في التشريع لأنه من خارج دائرة البشر.
إنَّ ما يشهده العالم اليوم من أزماتٍ متلاحقةٍ لا تكاد تولِّي أزمة حتى تلحق بها أختها هو إخفاقٌ في بُنية النظام وجوهره، وليس هو عَرَضاً، فالنظام الرأسمالي يكادُ يَكونُ رُوحه المنفعة، فالشيء النافع هو مادةٌ اقتصادية، بغضِّ النظر عن النتائج التي تترتب على تصنيعها والاتجار بها؛ فالمخدرات والأفيون والدعارة مادةٌ اقتصادية ولا ينظر للنتائج التي تكون بعد ذلك، فالمنفعة هي الأساس في النظام بل ولا نتجاوز إذا قلنا ليس مطلق المنفعة بل المنفعة التي يأخذها البعض ولو أضرت بالكل.
إنَّ النظام الرأسمالي يلفظ أنفاسه الأخيرة ولو قدر الله أن يقوم للمسلمين كيان هو من جنسهم وأن يحكمهم ناسٌ من جلدتهم، بمعنى أن تكون لهم دولة، فإن هذا النظام الرأسمالي برمته لم يكن ليدوم إلى هذه المدة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل ولربما شاء ذلك حتى يَستَنكِه حَملة الدعوة والأمة الاسلامية بأسرها طعم الانتصار، فضلا عن طَمْس أي وسطٍ سياسيٍ كان يتحدث باسم النظام الرأسمالي وحرية التجارة والحرية في تبادل السلع.
فما يظهر الآن يُرينا أن أمريكا قررت أن تذهب شوطاً بعيداً أو لربما إلى أن تلعب إلى آخر الشوط مع الصين وباقي الدول، وهذا بإذن اللَّه لن يوصل الأطراف إلى خير. وحدها دولة الخلافة هي التي تنقذ العالم من غابة الرأسمالية وتنظر للإنسان ليس بوصفه سلعةً وتجارة وإنما بوصفه إنساناً، فتوفر له الحاجات الأساسية من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ وتُمكِّنه من أن يُشبع حاجاته من السلع الكمالية، وبغير الإسلام ونظامه سيبقى العالم يتردى من سيئ إلى أسوأ، اللهم عجِّل لنا بالدولة التي تصون الدماء والأعراض والأموال؛ دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة آمين آمين.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز)
رأيك في الموضوع