تواجه حكومة قوى الحرية والتغيير منزلقاً سيئاً وقبيحاً في خطوتها لتشكيل الحكومة الانتقالية، حيث سقطت في مستنقع المحاصصات السياسية والجهوية، مما ترتب عليه مخاصمات ومشاكسات تكشف حقيقة الفراغ الفكري والسياسي الذي تحمله هذه المجموعات لحكم السودان، ولا محالة فإن أي تنظيمات اتجهت إلى اختيار حكامها ومتنفذيها على أسس جهوية أو محاصصات سياسية، دون النظر إلى أساس فكري، لن تحقق التغيير الحقيقي الذي يعبر عن إرادة أهل البلد وعن عقيدتهم، لتتدخل الأجندة الاستعمارية، التي دمرت بلادنا وأوردتها موارد الهلاك.
كتبت الكاتبة في صحيفة السوداني لينا يعقوب يوم السبت 17/8/2019م، وهو يوم الاحتفال بالتوقيع على الوثيقة الدستورية، في عمودها في الصفحة الأخيرة (لأجل الكلمة) تحت عنوان (مع البداية؟!) قالت: (أحزنني أننا بدأنا بمحاصصة جغرافية كنا قد كرهناها في العهد السابق، فقد احترفت الإنقاذ وتماهت طوال سنواتها بالمحاصصات الجغرافية والقبلية والسياسية، وهو ما بدأت به قوى التغيير في مجلسها السيادي.. قسمت قوى الحرية التي تضم خمس كتل رئيسية توزيعها السيادي على أساس جغرافي فعلى كتلة الإجماع الوطني تقديم مرشح من (جنوب كردفان) وتجمع القوى المدنية من (الوسط) وتجمع المهنيين السودانيين من (دارفور) وكتلة نداء السودان من (الشرق) والتجمع الاتحادي من (الشمال). وقالت: (ومن المحزن حقاً أن يتحدث قيادي في قوى التغيير أن مرشح تجمع المهنيين تم سحبه لأنه لا يمثل قبائل معينة في دارفور).
وقد نشر موقع سودان تريبيون يوم الجمعة 16/8/2019م: (اعتذرت الأستاذة الجامعية فدوى عبد الرحمن عن المشاركة في المجلس السيادي احتجاجا على الطريقة التي تم بها رفض المرشح محمد الحسن التعايشي)، وأضافت "كنت أظن أن حضوري لهذا الموقع يعتمد على خدمة الوطن دون محاصصات وجهوية".
وقد رفضت الجبهة الثورية الاحتفال بالتوقيع على الوثيقة الدستورية، لأنه لم يتم تضمين ما اتفقوا عليه في أديس أبابا في الوثيقة كنص (مقدس)!
حيث أفاد إبراهيم الأمين القيادي في قوى الحرية والتغيير لوكالة السودان للأنباء: (أن نقاط الخلاف بين قوى الحرية والتغيير مع الجبهة الثورية هي غياب اسم الأخيرة من الوثيقة الدستورية وهو "ما يفتح الباب لبقية حملة السلاح والمقاومة المسلحة لإيراد أسمائهم أيضا في الوثيقة". وتابع "الجبهة الثورية تحدثت عن محاصصات في المرحلة الانتقالية". سودان تريبيون 12/8/2019م، وفي التاريخ نفسه نشر الموقع أعلاه تصريحات رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم: "أنا شخصيا لا أستحي أن أقول إن الجبهة الثورية من حقها أن تشارك في مؤسسات الفترة الانتقالية.. هذه مؤشرات إيجابية لأنها تريد أن تأتي بالسلام وليس للمحاصصة".
لقد روجت قوى إعلان الحرية والتغيير بين الشباب أثناء الثورة لشعار (حكومة كفاءات غير حزبية)، عبروا عنه بحكومة (تكنوقراط)، ويظهر الآن أن الشعار كان عبارة عن كذب وتضليل، فقد بدأت هذه القوى بالمحاصصة السياسية 67% في المجلس التشريعي، وخمسة مقاعد في السيادي، ثم انتقلت إلى المحاصصة الجغرافية والجهوية، التي هي بذرة الشقاق التي يركز عليها المستعمر في تمزيق بلاد المسلمين، فمن ذا الذي له الحق أن يمثل أهل الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب بعرقه أو قبيلته أو لونه؟! فهذا المعيار الإثني أو الجهوي معيار منحط وقبيح يفرق الناس ولا يجمعهم، وقد فطن حزب التحرير لهذه الأفكار الهدامة فكانت أولى حلقات حزب التحرير التي يدرس فيها شبابه، لبنائهم فكرياً وثقافياً لصناعة الشخصيات الإسلامية، في كتاب نظام الإسلام؛ الذي تحدث عن القيادة الفكرية، وأثرها على رقي الإنسان، فضرب الحزب الروابط المنحطة التي تربط الناس، مثل الروابط الوطنية والقومية والقبلية والعائلية والمصلحية، وبيَّن خطورتها في نشر العداء والأحقاد بين الناس، وحدد أن الرابط لا بد أن يكون على أساس مبدئي؛ عقيدة روحية ينبثق عنها نظام، دون النظر إلى لون الإنسان أو عرقه أو قبيلته وجهته، لذا كان الإسلام أرقى نظام للربط بين الناس كما فعل النبي e لما آخى بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار، فصارت دولة الإسلام أفضل نموذج في العالم لرتق النسيج المجتمعي.
إن أخطر ما في هذه المحاصصات في هذا الاتفاق الباطل هو التهيئة للفدرالية والحكم الذاتي؛ خنجر التقسيم المشؤوم، يظهر ذلك في إصرار الحركات المسلحة على التفاوض كجسم مختلف، فقد رفضت الجبهة الثورية الاحتفال حتى يتم تضمين الاتفاق معها في الوثيقة الدستورية، وكذلك رفض عبد العزيز الحلو الجلوس مع الوفد المشترك للمجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بقيادة حميدتي والكباشي وأحمد ربيع، الذي سافر إلى جوبا للغرض نفسه، فقد ذكر موقع سودان تريبيون يوم الأحد 28/7/2019م: (مجموعة (الحلو) ترفض التفاوض قبل تكوين الحكومة الانتقالية) ولم يحضر الحلو هذا اللقاء يوم السبت 27/7/2019م الذي توسط فيه رئيس جنوب السودان سلفا كير، واكتفى الحلو بإرسال وفد برئاسة نائبه، جقود مكوار، وقال مكوار في تصريحات صحفية بجوبا إن الحركة ملتزمة بالتفاوض على قضايا السلام، مع الحكومة الانتقالية المقبلة). كما أورد موقع سودان تريبيون في 12/8/2019م عن الجبهة الثورية ما نصه: (تواترت أنباء عن مطالباتهم بأن يتم تمثيلهم في المجلس السيادي ومنحهم الحكومات في ولايات الحرب بدارفور وجنوب كردفان).
فمع كل هذه الكوارث كيف يحق لأهل السودان أن يحتفلوا باتفاق يكرس للمحاصصات السياسية ويُمكِّن للجهوية وتمزيق البلاد كما حدث في نيفاشا؟!
إن هذا الاتفاق هو إعادة للنظام السابق؛ الديمقراطي العلماني بشقيه (المدني أو العسكري)، العسكري فصل الجنوب خادعاً الناس باسم الدين، وهؤلاء يخادعون باسم (المدنية والحرية)، وكلها مشاريع المستعمر، فهي الخطة الأنجلوأمريكية لإقصاء الإسلام ومحاربته، وتقسيم السودان إلى خمس دول، ما يؤكد أن التغيير في السودان لم يحدث منذ الاستعمار إلى اليوم؛ لأن التغيير يحتاج إلى نظام غير نظام المستعمر، وإلى أفكار غير أفكار المستعمر، ولا يوجد ذلك إلا في الإسلام ودولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ فعلى أهل السودان العمل مع أبنائهم المخلصين لإقامتها، فهي وحدها الأمن والأمان والسلام والاطمئنان، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾.
بقلم: الأستاذ محمد جامع أبو أيمن
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع