في الأسابيع الماضية وقعت في مضيق هرمز عدة عمليات تفجيرية تعرضت لها عدة ناقلات، ففي البداية كانت هناك عمليات تخريب لبعض السفن، وتفجيرات صغيرة، وتم إجراء تحقيقات عديمة الجدوى، وأعلن أنّه لم يُعرف من الذي يقف وراء هذه التفجيرات، لكن الهدف منها كان سياسياً بعيد المدى.
وأمريكا كانت تخطط منذ فترة لتستثمر مثل هذا الواقع العسكري لأهداف سياسية، خاصة في منطقة الخليج، وقد قال الرئيس الأمريكي ترامب أكثر من مرة بأن موضوع حماية السفن مسألة تحتاج إلى دفع ثمن، فكان يتحدث كثيراً عن حرية الملاحة ومرور السفن ووجوب حماية هذه السفن، وأن أمريكا هي التي تقوم بهذه الحماية، وتقع على عاتقها مسؤولية تأمين المضيق من ناحية أمنية، لكنّها بدأت تُصرّح بأنّ الحماية تحتاج أموالاً، وعلى من تمر سفنهم عبر تلك الممرات المائية أنْ يدفعوا التكاليف.
فالمرحلة الأولى كانت مرحلة تخريب بسيط للسفن، ثمّ تطورت وأصبحت مرحلة احتجاز، فقامت بريطانيا بالدور الأبرز في هذا الاتجاه، فهي قد التقطت الهدف الأمريكي وفهمت اللعبة السياسية جيداً، ومن عادة الدول الكبرى أنْ لا تترك المجال لدولة واحدة في أي إقليم، وأمريكا في المنطقة لا تحتكر السيادة بشكل مطلق، وبالتالي لا بد لها من معاونين، وفي العادة تتدخل بريطانيا أو تتدخل فرنسا لمعاونة أمريكا أو لمقاسمتها النفوذ، كما حصل في حروب الخليج والعراق، وفي حرب أفغانستان.
وهنا جاء الدور على بريطانيا، فقامت باحتجاز ناقلة إيرانية في مضيق جبل طارق، والذي يفترض أن الملاحة فيه حرة ودولية، والاحتجاز يخالف القانون الدولي لأن هذا الممر ليس ممراً بريطانياً، إذن لماذا تحتجز ناقلة نفط إيرانية متوجهة إلى سوريا؟! المسألة فيها نظر!
هذا الاحتجاز أوجد على الفور ردة فعل من إيران، فلوحت بأنها تريد أن تحتجز سفناً بريطانية، ويبدو أن الأحداث قد تمت فبركتها، فكانت هناك سفينة تمخر مياه الخليج ترفع العلم البريطاني ولا يوجد على متنها مواطن بريطاني واحد، وإنما بعض من الهنود وقليل من الروس والأوكرانيين وجنسيات مختلفة وعددهم قليل، بالإضافة إلى أنه لا يوجد فيها نفط، فاحتجزتها إيران على مرأى من المدمرة البريطانية التي لم تفعل شيئاً لمنع الاحتجاز، ويقال بأن المروحيات البريطانية كانت تحلق في المنطقة، وحصل احتكاك بين القوتين البحريتين البريطانية والإيرانية، لكن بريطانيا تركت إيران تحتجز الناقلة بشكلٍ فيه رائحة التعمد، فتم إذاً تسخين الأجواء في منطقة الخليج وفي منطقة مضيق هرمز بشكل خاص، وتدخلت عُمان كسمسار إنجليزي للتفاوض مع إيران حول صفقة الإفراج عن الناقلة الإيرانية مقابل الإفراج عن الناقلة التي ترفع العلم البريطاني، ورفضت بريطانيا وتم تسخين الأمور أكثر فأكثر.
فأصبح هناك ثمة حاجة لوجود حماية ولوجود نشر قوات جديدة في المنطقة. وهنا برز الاستثمار السياسي، بمعنى أن هذه الحركات التي تمّ القيام بها، كتفجير بعض السفن واحتجاز الناقلات، كان الهدف منها تمرير فكرة سياسية في المنطقة وكان وراءها ما وراءها، وبدا أنّ الهدف السياسي هو كبير، ويتعلق بإعادة نشر القوات والوجود في منطقة الخليج.
وبدأت الأفكار السياسية تخرج إلى السطح وتتدفق، فما هي الأفكار التي تطرح حتى نميز بين ما تطرحه أمريكا من جهة وبين ما تطرحه بريطانيا وأوروبا من جهة أخرى؟
بدأت أمريكا بطرح فكرتها من خلال سنتكوم "القيادة المركزية الأمريكية" فكانت فكرة تشكيل قوة بحرية تحت اسم الحارس هدفها تأمين ممرات الملاحة الدولية، ليس فقط في مضيق هرمز وإنما في كل الممرات البحرية في الشرق الأوسط، وهذا يعني أن أمريكا تريد أن توسع العمل العسكري بقيادتها ليشمل الشرق الأوسط كله، بما يحتويه من مضائق كباب المندب وخليج السويس وكل المضائق والهيمنة على المنطقة كلها، فضغطت أمريكا على بريطانيا وعلى أوروبا لكي تتقدم بريطانيا بعمل سياسي تساعد فيه أمريكا في الخليج كالعادة.
أما بريطانيا فلا تخفى عليها الأفكار الأمريكية، ولكنها لا تستطيع من ناحية أن تردها ولا تستطيع من ناحية أخرى أن تقوم بعمل أحادي بمفردها لضعفها، فماذا صنعت بريطانيا؟
أولاً قامت بإرسال المدمرات والفرقاطات إلى الخليج، وبدأت تجوب المياه مُستعرضةً عضلاتها، فأصبح هناك وجود عسكري بحري أمريكي، ووجود عسكري بحري بريطاني زائد عن الحد.
فالأهمية تكمن في طرح الأفكار، وهكذا نفهم كيف يطرح السياسي الفكرة بعد أن استغل قيام مجهولين بالأعمال العسكرية أو المادية.
وهنا طرحت بريطانيا فكرة جديدة تختلف عن الفكرة الأمريكية، وهي تشكيل مهمة حماية بحرية بقيادة أوروبية في منطقة مضيق هرمز تحديداً، وهذا يخالف الطرح الأمريكي بتشكيل مهمة بحرية بقيادة أمريكية لكل منطقة الشرق الأوسط.
وطلبت بريطانيا من الدولتين الأوروبيتين الرئيسيتين ألمانيا وفرنسا مساعدتها في نشر القوات، فرفضت ألمانيا في البداية وأدركت أنه موضوع تنافس دولي وأنها لا ناقة لها فيه ولا جمل، وتلكأت وقالت إنها تريد رؤية حقيقة الأطروحات ومن ثم تطرحها على البرلمان الألماني، فتراجعت ألمانيا قليلاً.
أما فرنسا فحاولت أن تدير الأمر لصالحها بمعنى أنها لا تريد خدمة أمريكا، ففي البداية صرحت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي: "إنّ بلادها وبريطانيا وألمانيا تعتزم تنسيق تعزيز جهودها في الخليج دون نشر تعزيزات إضافية"، ففرنسا بداية تجاوبت مع المقترح البريطاني لكن بتعزيزات قليلة، لكن بريطانيا رفضت وقالت لا بد من تعزيزات كبيرة، ومن ثم جاء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ويبدو أنه أكثر حكمة من وزيرة الجيوش الفرنسية فقال أمام البرلمان: "إن فرنسا تعمل مع بريطانيا وألمانيا من أجل إطلاق مبادرة تقوم على تشكيل بعثة تعمل على مراقبة الأمن والسلامة البحرية في الخليج".
إذاً تطور الطرح بشكلٍ تفاعلي، حيث كان في البداية مجرد تنسيق للقوات الموجودة، أما الآن فهناك بعثة تشرف على الوضع، وتريد زيادة كمية الأسلحة المراد إرسالها والمدمرات والسفن العسكرية، لكن شدد الوزير الفرنسي على نقطة مهمة جدا قال: "إن المبادرة الأوروبية بمثابة النقيض للمساعي الأمريكية التي تمارس أقصى الضغوط على إيران"، كأنه قال بأننا نفهم اللعبة الأمريكية والتي هي الضغط على إيران ومن ثم ضغط إيران على أوروبا فتقود أمريكا العالم والمنطقة، ثمّ قال: "نحن نريد أن نقوم بعملنا كأوروبيين بشكل منعزل عن أمريكا بل بشكل يناقض عمل أمريكا". ومن ثم سكتت بريطانيا سكوت الرضا والموافقة على موقف فرنسا.
ومع تغير رئيس الوزراء في بريطانيا من تيريزا ماي إلى بوريس جونسون، والذي يُظهِر وكأنه يسير مع ترامب، فقد كانت تيريزا ماي رئيسة الوزراء السابقة قد رفضت بشكل مباشر وصريح عرضاً أمريكياً بأن تشترك أمريكا وبريطانيا معاً في مسألة الملاحة في منطقة خليج هرمز، حيث قالت لترامب: لا أريد، واستعجلت الأمور وربطت الأوروبيين مع بريطانيا. وعندما جاء بوريس جونسون لم يغير أي شيء من الذي أرسته تيريزا ماي، حتى إن بوريس جونسون أيد كلام وزير الخارجية السابق وقال: "نحن لا نريد، بما معناه، دوريات أمريكية بريطانية، بل نريد دوريات بحرية أوروبية".
إذا هنالك تمايز واضح بين القيادة الأوروبية البحرية وبين القيادة الأمريكية، فبالرغم من وجود تناقض بريطاني أوروبي على موضوع بريكست وإخراج الإنجليز من الاتحاد الأوروبي، بالرغم من ذلك فهم ينسقون تنسيقاً كاملاً في المسائل الخارجية والمسائل الدولية.
إذا المطروح أحد الأمرين وعلى فرنسا أن تختار إما أن تقبل بقيادة أوروبية فرنسية بريطانية أو أن تنعزل وتلقي الأمور بيد الإنجليز وبالتالي يسير الإنجليز مع أمريكا.
الآن وقد طرحت الفكرة واختمرت وتحدد الهدف، ولا بد من وجود قوات، صرنا أمام احتمالين: إما قوات بحرية أمريكية بريطانية فقط، أو قوات بحرية أوروبية فرنسية بريطانية إلى جانب القوات البحرية الأمريكية، مما يظهر أنه حتى على مستوى حماية الممرات يوجد صراع أمريكي أوروبي.
إنّ هذا الصراع ظهر من خلال وجود تضاد في العلاقات والمصالح الأوروبية والأمريكية، والآن فرنسا متحمسة من أجل أنها تريد قيادة أوروبية بعدما كانت متلكئة في البداية، متحمسة للتنسيق مع الإنجليز ومضطرة للتنسيق مع بريطانيا، بالرغم من الاختلاف على موضوع بريكست لكنهم متفقون أن يكون لديهم قيادة مستقلة ومنفصلة عن القيادة الأمريكية.
وللأسف الشديد تبقى بلادنا مستباحة للكافر المستعمر، وللأسف فإنّ إيران ما زالت تقدم الذريعة لأمريكا وللغرب لنشر قواتهم البحرية في المياه الإسلامية.
رأيك في الموضوع