قبل أربعين عاماً قابلت الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها السادات سنة 1978، قابلتها بالرفض والاستنكار، ووصمت السادات بالخيانة العظمى، وبالخروج عن النهج القومي والوطني، والخروج عن الصف العربي، وبالموالاة لكيان يهود، وللصهيونية والإمبريالية الأمريكية، وقررت الدول العربية في الجامعة العربية في ذلك الوقت إخراج مصر من الجامعة العربية، وإعلان المقاطعة لها. فما الذي حصل بعد ذلك، هل بقيت الأنظمة العربية على مبدئيتها تجاه هذا الحدث الكبير؟ وهل عملت على تدعيم هذا الموقف لدى الشعوب كناحية مبدئية؛ تنطلق من عداوتها لكيان يهود على أساس عقيدتها وفكرها؟ وهل عملت على اتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية من أجل إجبار مصر عملياً على إلغاء هذا الاتفاق؟ وهل عملت على إعلان الحرب على هذا الكيان المغتصب من أجل استرجاع فلسطين المغتصبة؟
الحقيقة أن مواقف الحكومات العربية منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد وحتى اليوم لم تنطلق من الناحية المبدئية؛ أي من فكر الأمة، وإنما انطلقت من مجاراة الواقع، والخضوع للضغوطات السياسية الأمريكية والأوروبية واليهودية، وقد تمثلت هذه الواقعية بأمور بارزة على مدى السنوات السابقة، التي سبقت قمة البحرين؛ وهي مبادرة الملك فهد للسلام سنة 1981، حيث تحولت قضية فلسطين من التحرير وخلع يهود إلى استخذاء السلام معهم. وأعيدت مصر إلى الجامعة العربية في قمة الدار البيضاء سنة 1990؛ أي بعد اثني عشر عاما من المقاطعة المصطنعة الواهية، وأعيد مقرها إلى مصر مرة أخرى، ثم جاء مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، حيث جمع الأطراف الثلاثة (منظمة التحرير، والأردن، ولبنان) تحت مظلة أمريكا، أعقبه بسنتين اتفاق أوسلو 1993 بين منظمة التحرير وكيان يهود، ثم اتفاقية وادي عربة سنة 1994 بين الأردن وكيان يهود، ثم حصل تحول وتطور آخر في الموقف العربي بشكل عام؛ وهو اعتراف الجامعة العربية بكيان يهود بدون أي مقابل؛ في مؤتمر القمة العربي في بيروت سنة 2002، ثم توكيل أمر رعاية المفاوضات بين الجانب الفلسطيني واليهودي إلى مصر أخيراً.
وفي هذا العام 2019 جاءت قمة البحرين بعد كل المراحل السابقة، بمبادرة أمريكية سعودية وبموافقة من معظم الدول العربية، ومشاركة منها وتأييد!!..
وقد جاء الرفض من بعض الأنظمة العربية، ومن السلطة الفلسطينية، واعتبرت هذه القمة وما أفرزته من الدعوة لصفقة القرن تصفية للقضية الفلسطينية لصالح كيان يهود، وخرقاً للاتفاقيات الدولية خاصةً قرار 242، وتضييعاً لحقوق اللاجئين. فهل ستبقى هذه المواقف من الرفض لهذا المشروع السياسي التصفوي من الأنظمة الرافضة، أم أن الأمر سيخضع للناحية الواقعية؛ كما حصل الرفض في السنوات السابقة لقرار 242، والرفض للصلح والتفاوض والتنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين في مؤتمر الخرطوم، أو ما جرى من رفض لمعاهدة كامب ديفيد سنة 1978؟!
الحقيقة هي أن الذي يعزز موضوع الرفض والتحدي والتصدي لكل هذه المشاريع؛ هي الناحية المبدئية لا غير؛ المنبثقة عن عقيدة الأمة الإسلامية، حيث ترفض هذه العقيدة التنازل المطلق عن حبة رمل واحدة لصالح كيان يهود وترفض كذلك السلام وأي معاهدة توقع مع هذا الكيان ما دام يغتصب أي جزء من أرض الإسراء والمعراج، وترفض أي لقاء مع هذا العدوّ الغاشم المعتدي، إلا في ساحات الجهاد، كما توجب الناحية المبدئية الوحدة بين الشعوب الإسلامية وإعلان الجهاد لتحرير فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها.
إنه وللأسف فإن الأنظمة في البلاد الإسلامية تتعامل مع القضايا المطروحة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية من منظور القوانين الدولية، ونظرة المجتمع الدولي، وضغوطات الواقع وإغراءاته الاقتصادية، ولا تنظر أبداً لهذه القضايا من منطلق الدين والعقيدة، أي أنها تنظر نظرة واقعية لا مبدئية؛ لذلك لا يستبعد في السنوات القليلة القادمة أن يبدأ سلم التنازلات نحو مشروع صفقة القرن؛ فيبدأ بالناحية الاقتصادية والتمهيد لذلك عن طريق عرابي أمريكا من الأنظمة الموالية لأمريكا؛ على رأسها السعودية ومصر، ثم ينتهي هذا الأمر بالقبول السياسي لهذه الصفقة المشئومة تماما كما جرى في سلم التنازلات السابقة تجاه هذه القضية.
وقبل أن نختم هذا الموضوع نقول: بأن الشعوب في البلاد الإسلامية ما زالت تتمسك بالناحية المبدئية، التي تخلى عنها حكامها تجاه فلسطين، وما زالت ترفض أي لقاء مع يهود إلا في ساحات الجهاد؛ ولو حيل بين هذه الشعوب وبين الجهاد ضد كيان يهود لرأيت الملايين يتوثبون على أبواب الأقصى لتحريره، وتحرير كامل فلسطين، وقد عبر عن هذا الأمر صراحة رئيس وزراء كيانيهود في العام الماضي أمام الكنيست، بمناسبة مرور أربعين عاما على معاهدة كامب ديفيد، فقال: "إن الزعماء العرب ليسوا العقبة أمام توسع علاقات (إسرائيل) من خلال السلام، وإنما الرأي العام العربي". وقال أيضا: "إن العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، وإنما إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي، وأنه بدون اختراق الرأي العام العربي فإن السلام سيظل باردا".
إن موقف الشعوب سيبقى وسيتعزز تجاه هذه القضية الحساسة من قضايا أمة الإسلام وسوف يكون تهاون الحكام تجاه هذه القضية سببا في إسقاطهم أولاً، وفي النهوض لتوحيد الأمة نحو قضية فلسطين، وتحرير الأقصى تماما كما حصل إبان حملات الصليبيين والمغول.
فنسأل الله تعالى أن يعجل بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة لتوحيد أمة الإسلام جميعاً تحت راية واحدة وجيش واحد، لتحرير بيت المقدس؛ لنحقق بشارة رسول الله e في تحريرها، والقضاء على يهود فيها، ونحقق البشارة الثانية بخصوص هذه الأرض؛ بأن تكون عقر دار الخلافة الثانية، ونحقق البشارة الثالثة وهي انطلاق الجيش المسلم الذي يفتح روما من القدس. نسأله تعالى أن يكون ذلك قريباً.
رأيك في الموضوع