إن الجلسة التي انعقدت يوم الاثنين 20/5/2019 بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث أعلن المجلس العسكري على أثرها في بيان له في اليوم التالي، أن نقطة الخلاف الأساسية ما زالت عالقة، والتي تدور حول النسب في المجلس السيادي، ورئاسته، بين المدنيين والعسكريين، وقد صرح عضو التفاوض عن قوى الحرية والتغيير لقناة (آر تي) الروسية بأن المجلس العسكري الانتقالي رفض وبشكل قاطع أن يرأس المجلس السيادي، شخصية مدنية، وذلك بعد إعلان فشل المفاوضات. هذا وقد صرح عضو بالمجلس العسكري الانتقالي السبت بأن الجيش لن يقبل بأغلبية مدنية في مجلس السيادة معتبرا ذلك خطا أحمر. (سكاي نيوز 4/5/2019). هذا وقد نقلت جريدة الصيحة عن الفريق صلاح عبد الخالق قوله إن المجلس يمكن أن يقبل بتمثيل متساوٍ بين المدنيين والعسكريين ولكن لن يقبل بأغلبية مدنية في المجلس السيادي، تعقيبا على مطالب قوى الحرية والتغيير. وأخيرا ارتفعت نبرة المجلس العسكري رافعا ثلاث لاءات (لا للأغلبية المدنية، ولا لحل جهاز الأمن، ولا للرئاسة الدورية).
وقد دفع المجلس العسكري بحجج عديدة دعماً لموقفه هذا، فهو يرى أن مجلس السيادة يمثل إرادة كل أهل البلد بينما لا تمثل قوى الحرية والتغيير الإرادة العامة لأهل السودان، بالرغم من أنها هي التي قادت وتقود الحراك الذي أفضى إلى إسقاط النظام. وعليه سوف يسلم هذا الأمر لأهله وهي الحكومة المنتخبة التي تمثل الإرادة العامة لأهل البلاد. وذلك لأن المجلس هو الجهة المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من كل أطياف المكون السياسي في البلاد. وكذلك من الحجج التي صاغها المجلس العسكري، الوضع الأمني الحرج والاستثنائي الذي يمر به السودان وما تموج به الحروب في السودان وكثرة الحركات المسلحة بالداخل فلا يحتمل غير الجاهزية الكاملة والقدرة على سرعة اتخاذ القرار وهذا لا يتأتى إذا لم يكن القرار السيادي في يد القوات المسلحة. وأخيرا يرى المجلس أن القوات المسلحة ممثلة في المجلس العسكري الانتقالي قوة أصيلة في الإطاحة بالنظام السابق ولها الحق في المشاركة الفاعلة في صنع القرار، وهم جزء أصيل من الشعب السوداني...
أما قوى الحرية والتغيير فحجتها أن الانتقال للحكم المدني هو المطلب الأساس والأوحد للمواطن السوداني والذي بسببه قامت الثورة، وبسببه ارتقى الشهداء، وبسببه ما زال الاعتصام قائما، فلا يمكن بعد كل هذه التضحيات أن يستبدل بحكم عسكري حكما عسكريا آخر مهما اختلف في شكله ومظهره.
وحقيقة الأمر أن كل ما أثير سواء من العسكريين أو المدنيين إنما هي حجج يتحاجّون بها ويخفون من ورائها الأسباب الحقيقية التي تدفع كل طرف للتمسك بموقفه. فقوى الحرية والتغيير يجزمون بأن العسكر طامعون في السلطة، وأن دولاً إقليمية وعالمية تدعمهم، وتقف معهم، قلبا وقالباً، كما وإن فكرة استنساخ تجربة السيسي ماثلة أمام أعينهم وطرح المجلس العسكري برنامج انتخابات مبكرة يعضد وجهة النظر تلك. وما يعضدون به وجهة نظرهم يتوافق مع كثير من التحليلات السياسية المحلية والعالمية والتي تسير في اتجاه عدم رغبة المجلس العسكري في تسليم السلطة. وعلى سبيل ذلك ما ورد في مجلة (فورن بولسي الأمريكية). فقد لخص الصحفي جستن لينش في تقرير المجلة في السودان بعبارة (ذهب البشير وبقي نظامه يقاتل) موضحا أنه يبدو أن قادة الجيش السوداني بدأوا يتراجعون عن تعهداتهم بتسليم السلطة للمدنيين. ونقل لينش عن كبير الباحثين في المجلس الأطلنطي أن قيادة الجيش تعلمت من البشير كيفية تبديد الوقت في التفاصيل الصغيرة وترك الآخرين يصارعون. وتناول التقرير موقف مصر والسعودية والإمارات، الداعم للمجلس العسكري والحريص على عدم تسليمه للسلطة. وأيضا ما تناوله تقرير مجلة (فورن بولسي) في وصفه للموقف الأمريكي بأن العلاقة مع قوى الحرية والتغيير ليست سلسة، وذكر أن أربعة من قادة قوى الحرية والتغيير تحدثوا عن مصاعب في التواصل مع رئيس البعثة الدبلوماسية الأمريكية بالخرطوم استيفن كوتسيس، ووصفه أحدهم بأنه "متكبر ومغرور"، وقال آخر (إنه لن يحضر اجتماعات مع السفارة الأمريكية، لأنها مضيعة للوقت). كل هذه الأمور جعلت قوى الحرية والتغيير متوجسة من المجلس العسكري. وعلى استعداد للسير قدماً في معركة كسر العظم.
أما المجلس العسكري الانتقالي فموقفه الحقيقي هو التوجس من أن قوى الحرية والتغيير إذا أمسكت بالمجلس السيادي والذي هو صاحب نفوذ حقيقي وليس تشريفيا، كما يشاع، وهو المسؤول عن مجلس الأمن الوطني، فهذا يعني أنه بمقدور قوى الحرية والتغيير إعادة هيكلة القوات النظامية، (الجيش، الشرطة، وجهاز الأمن والمخابرات)، ما يعني بالنسبة للمجلس العسكري، وضع عنقه على حبل مشنقة قوى الحرية والتغيير، لذلك فهو يستمسك بمجلس السيادة ورئاسته، جاعلا منه قضية حياة أو موت. وهو أيضا مستعد لأن يسير بالمعركة إلى حد كسر العظم.
إن قوى الحرية والتغيير قد رفعت شعار الإضراب السياسي ومن ثم العصيان المدني كسلاح في وجه المجلس العسكري أسلوباً لممارسة مزيد من الضغوط على العسكر. وهو سلاح مجرب وفاعل وقوي ولو أنه تكتنفه بعض المصاعب، وكذا للمجلس العسكري أسلحته المضادة تعطيه مساحة للمناورة فهو قد رفع بالمقابل فكرة انتخابات مبكرة مسنوداً بالتلويح بتحريك الثورة المضادة، وما رفع الحظر عن النقابات والاتحادات، إلا نموذج لحركة الثورة المضادة. وكذا الوقوف في وجه النيابة العامة التي سعت لتوقيف رئيس جهاز الأمن السابق في مؤشر آخر للثورة المضادة. كذلك من الأساليب التي هي مظنة أن يتّبعها المجلس العسكري، كأن يقوم بتحريك أو السماح لكل التيارات السياسية الواقفة ضد قوى الحرية والتغيير، بالقيام بالتحركات المضادة. وقد يلجأ للأعمال القذرة فيفتح صنبور الأمن فتتدفق الفوضى، كما حدث في الثورة المصرية، أو كأن يقوم بأعمال شبيهة بأعمال ليلة الثامن من رمضان الدامية. كل هذه الأعمال وغيرها تسمح له بالالتفاف على الثورة.
إن أهل السودان لا يرغبون في السير في اتجاه المصادمة لا على المستوى المحلي ولا على المستوى الإقليمي، إنهم يبحثون عن الحل الصحيح، الذي لا بد أن يؤخذ من فكرة صحيحة، وهنا يسعفني قول الله سبحانه تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾. وقوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾.
والشيء في هذا المقام هو قول الرسول e «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ»، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم...» قرر الإسلام أن السلطان للأمة تعطيه من تشاء ليحكمها بكتاب الله وسنة رسوله e. وبذلك يرفع الخلاف بما يرضي الله ورسوله ويغيظ المتربصين.
رأيك في الموضوع