تتسارع الأحداث في الجزائر على نحو غيرِ مسبوق في هذه الآونة على خلفية الحراك الشعبي القوي الذي هز البلاد منذ يوم الجمعة 22/02/2019م. فبعد ذلك اليوم صارت تخرج مسيراتٌ حاشدة في مختلف مدن الجزائر تطالب بالتغيير. وباتت تطرأ على الساحة في كل يوم بل كلِّ ساعة مستجداتٌ تفرض نفسَها على قائمة عناصر تحليل ما يجري حقيقةً في البلاد. ومن آخر هذه المستجدات ما أوردته وكالةُ الأنباء الجزائرية يوم الثلاثاء 16/04/2019م على لسان الفريق أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الجزائري في خطاب له من مدينة ورقلة، دعا فيه إلى ضرورة انتهاج أسلوب الحكمة والصبر، لأن الوضع السائد مع بداية هذه المرحلة الانتقالية يعتبر وضعاً خاصاً ومعقداً، مؤكداً على التزام الجيش بمرافقة مؤسسات الدولة في هذه المرحلة وأن كافة الآفاق الممكنة تبقى مفتوحة، وأن الوضع لا يحتمل المزيد من التأجيل! كما أكد أن كافة الخيارات باتت متاحة من أجل إيجاد حل للأزمة في البلاد في أقرب وقت، وأن تعليمات واضحةً لا لبس فيها صدرت منه لحماية المواطنين لا سيما أثناء المسيرات! جاء هذا يوم استقالة رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز تحت ضغط هتافات الجماهير المنادية بإبعاد كل رموز محيط بوتفليقة، ليـُعين سريعاً خلفاً له كمال فنيش عضو المجلس الدستوري هو الآخر منذ 2016م. وقد طرأت هذه الأحداث على الساحة بعد الجمعة التي أعقبت تسلم عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة السابق يوم 09/04/2019م رئاسةَ البلاد بشكل مؤقت إلى غاية إجراء الانتخابات الرئاسية التي تأمل السلطة إجراءَها يوم 04/07/2019م إذا ما سارت الأمور وفق مقتضيات الدستور ولم تخرج الأوضاع عن السيطرة!! علماً أن أحزاب المعارضة السياسية وجموع الحراك أعلنت مقاطعَتها من الآن. واللافت في الأمر أنه لأول مرة يهاجمُ رئيس أركان الجيش قايد صالح بشكل مباشر رجلَ جهاز الاستعلامات والأمن السابق الجنرال توفيق، متهماً إياه بالتآمر في الخفاء مع جهات سياسية مشبوهة وبالتحريض والضلوع في تأجيج الأزمة. فقد جاء في خطابه: "لقد تطرقتُ يوم 30 آذار/مارس لاجتماعات مشبوهةٍ تُعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب وعرقلة مساعي الجيش الوطني الشعبي ومقترحاته لحل الأزمة. إلا أن بعضَ الأطراف وفي مقدمتها رئيس دائرة الاستعلام والأمن السابق خرجت تحاول عبثاً نفيَ تواجدها في هذه الاجتماعات ومغالطةَ الرأي العام، رغم وجود أدلة قطعيةٍ تثبت هذه الوقائع المغرضة... وعليه أوجِّـهُ لهذا الشخص آخرَ إنذار!.. وفي حالة استمراره في هذه التصرفات فإننا سنتخذ ضده إجراءات قانونية صارمة!" (نقلاً عن وكالة الأنباء الجزائرية). ولا يبعد بعد هذا الخطاب الحاد وخروجِ الصراع إلى السطح أن تتحرك في قابل الأيام قيادةُ الأركان ضد بعض النافذين من العسكريين كقادة النواحي السابقين من الجنرالات بغرض لجم أقطاب هذه الزمرة بوسائل شتى منها التهديد والمحاكمات والاعتقالات أو بتحريك قضايا فساد ضدهم. كما لا يستبعد تحريك التيار الوطني - الإسلامي في مواجهة غلاة العلمانيين المرتبطين بالمستعمر القديم، ولو أدى ذلك إلى الخروج عن السلمية بشكل محدود في المسيرات وحسم الصراع بالدخول في الفوضى ولو مؤقتاً مستقبلاً. إلا أن المأمول لدى الطرف المحسوب على فرنسا هو بالتأكيد ليس أكثر من حصول توافق جديد على أرضية جديدة! وقد شوهدت بالفعل بوادر الصدام والعنف في بعض مناطق العاصمة يوم الجمعة 12/04/2019م. إلا أنه من المبكر كشف خبايا كل هذا التجاذب في أعلى الهرم على وجه الحقيقة، وهل هو صراع حقيقي أو مناورة أخرى ستجر الشعب مجدداً إلى تصادم تستفيد منه الزمرُ المرتبطة بالمستعمر الأوروبي ويُفضي إلى تثبيت نظام عميلٍ جديد، ويفوِّت مرةً أخرى فرصةَ التغيير الحقيقي على الشعب المكلوم.
وإزاء هذا الوضع المتأزم فإننا نُجمل ما يحدث من حراك في البلد من حيث مسبباته وتفاعلاته فيما يلي:
1- دور فلول "الدولة العميقة" في الحراك.
إن خصومَ الزمرة التابعةِ للإنجليز المهيمنة على الحكم في الجزائر الآن، أي فلول الدولة العميقة من أذناب فرنسا المتغلغلين في كافة الأوساط، الجيش والإدارة والإعلام على وجه الخصوص، لا شك أن لهم أيادي طويلة فيما يحدث الآن في الجزائر، بل كانوا متأهبين بمختلف أدواتهم منذ سنواتٍ لتحريك الشارع عبر رجالاتهم المشتغلين في الميدان بتدبير من عناصر جهاز الأمن والاستعلام (المخابرات) السابق الذي كان على رأسه محمد مدين المعروف بالجنرال توفيق باستخدام الشباب عبر منصات التواصل وبدعم من غلاة العلمانيين من بعض الأحزاب المحسوبة عليهم سياسياً (أيديولوجياً ومصلحياً) كحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ذي التوجه القومي-الأمازيغي العلماني المتفرنس، بل حتى من حزب طلائع الحريات الذي يرأسه علي بن فليس، الذي كان قد خسر الرهان ضد بوتفليقة في انتخابات 2004م بإيعاز ودعم من قائد الأركان السابق المقبور محمد العماري وخالد نزار وغيرهما من الجنرالات المعروفين بولائهم لفرنسا.
إلا أنه لا يخفى أن من بين أهم الأسباب والظروف التي جعلت الناس يثورون في الجزائر أن الرئيس المبعد بوتفليقة وأقطابَ منظومته الفاسدة والمحيطين به من جميع المنتفعين وشركائهم من أرباب الأعمال الموالين لهم، وحتى من خصومهم السياسيين والعسكريين من جنرالات تسعينات القرن الماضي وشركائهم من رجال المال والأعمال، ولغوا جميعاً على مدى عقود في نهب المال العام والسطو على ثروات البلاد بالأساليب والطرق الملتوية المختلفة وتحويله إلى خارج البلاد. إلا أن الفساد لم يقتصر كما يُتوهم على ناحية المال والاقتصاد فقط، بل تعداه إلى كافة أوجه ونواحي الحياة على كافة الأصعدة، كالتعليم والإدارة والصحة وغيرها.
2- لا تحرر للمسلمين من هيمنة الغرب وعملائه إلا بالإسلام!!
إن حجم الحراك وأعداد المحتجين في الساحات والمطالب التي باتت ترفع في الشعارات تجاوزت توقعات الأطراف الفاعلة المتصارعة! ولكن اللافت في كل ما جرى ويجري إلى هذه اللحظة هو أن الساحة خالية تماماً من الشعارات الإسلامية باستثناء بعض الجيوب في منطقة واحدة من العاصمة لا غير! والحقيقة هي أنه أريد للمسيرات أن تكون كذلك من طرف الجهات التي تحركها في الخفاء!إن مطلب ذهاب رموز الفساد كأشخاص، أو رحيل النظام أو إسقاط النظام وفق شعار "الحرية أولاً" أو "الديمقراطية أولاً"، أو إنشاء "الجمهورية الثانية" كما هو عند العلمانيين المرتبطين بفرنسا، وحتى مطلب "الدولة المدنية" كما هو عندهم وعند بعض "الإسلاميين" المضبوعين، لن يفضي أبداً إلى ما يريدهالمسلمون حقيقةً إذا لم يصحبهُ بل يسبقْه رؤية واضحة ومشروعٌ سياسي منبثق عن مبدأ الأمة يتجسد من خلاله ما يجب شرعاً أن يكون: خلافة راشدة على منهاج النبوة يتحقق بها حملُ رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء، ويتحقق فيها العدلُ والعزة وحسنُ الرعاية ورضوان من الله أكبر. وإنا لنشفق على أمتنا ونعوذ بالله من أن يصيبها للمرة الألف خيبةُ أملٍ جديدةٍ جراء إبعاد الإسلام عن المعترك السياسي، إذ هو منبع عز المسلمين ومصدر قوتهم في وجه أعداء الأمة من كل صنف.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم - الجزائر
رأيك في الموضوع