بعد أن استعرضنا الصراع الأمريكي البريطاني في المنطقة وسعي أمريكا القويةلإخراج بريطانيا من المنطقة بحجة الفراغ الاستراتيجي، سوف نبحث في هذا الجزء أهم مواطن الصراع وأشدها من خلال الدول الكبرى ودور العملاء، ولن نجد أشد وأخطر من القضية الفلسطينية وزرع كيان يهود وأن تكون رأس حربة وقاعدة استعمارية لمن يملكها.
إن من أشد مواطن الصراع بين أمريكا وبريطانيا آنذاك هو حل مسألة القضية الفلسطينية لصعوبة الحل، إن لم نقل لاستحالته لتعلق هذه المنطقة بعقيدة الأمة، وادعاء يهود الحق التاريخي وبناء الهيكل المزعوم، لذا قلنا باستحالة الحل إلا من خلال قضاء طرف على آخر، وحتى نستطيع إثبات هذه المقدمات وهي الحل الإنجليزي ومشروعهم والحل الأمريكي ومشروعهم كان لا بد من بحث المسائل التالية وهي:
المشروع الإنجليزي للقضية الفلسطينية: لقد أصدرت الحكومة البريطانية على مدى سنوات إدارتها لفلسطين نحو أربعة كتب بيضاء موجهة إلى العرب الفلسطينيين، كان أولها كتاب تشرشل الأبيض الصادر بتاريخ 3 حزيران 1922م سعت فيه الحكومة البريطانية إلى إزالة المخاوف العربية بالنسبة لإعلان بلفور، أما الكتاب الأبيض الثاني فقد أصدرته الحكومة البريطانية في 19 تشرين الثاني 1928مللتأكيد على الملكية الإسلامية لحائط البراق في القدس مع حقوق يهودية محددة للوصول إلى الحائط للصلاة.
ثم تلا ذلك كتاب أبيض ثالث هو كتاب باسفيلد الصادر في تشرين الأول 1930م إثر صدور تقرير لجنة هوب - سمبسون المؤيد للحقوق العربية الفلسطينية، ونص على "التزام الحكومة البريطانية بمصالح مجموعتي السكان من عرب ويهود"، وليس بمصالح مجموعة واحدة، هذا الكتاب يعرف عند العرب والفلسطينيين بالكتاب الأسود.
أما الكتاب الأبيض الرابع فهو الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 27 أيار 1939م وكان وزير المستعمرات مالكولم ماكدونلد هو الذي تبنّاه وعمل على إصداره، وتكمن أهميته في أنه ظل يشكل السياسة الرسمية الثابتة للحكومة البريطانية منذ صدوره وعلى مدى سنوات طويلة، وكان يمثل رؤية الإنجليز للحل لفترات طويلة إلى أن غاب عن المشهد السياسي نهائيا، وزال عن سياسات الدول والأحزاب خاصة بعد تبني بريطانيا لحل الدولتين وتجميد أو موت حل الدولة الواحدة، وهذا الكتاب هو الوثيقة التي أصدرتها الحكومة البريطانية بشكل رسمي والذي تعهدت بتنفيذه من جانبها حيث جاء فيه: "وسيسار في هذه العملية سواء اغتنم كلا الطرفين (العربي واليهود) هذه الفرصة أم لا"، ويتلخص المبدأ الأساسي الذي يحكم سياسة الكتاب في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثل فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي.
ولقد قامت الكثير من الوفود والدراسات ولجان التقصي بعمل الكثير من التقارير والتقدم بتوصيات للحكومة البريطانية بشأن الأوضاع ونتائج السياسات المتبعة فيها، وبعد دراستها لتلك التقارير وبخاصة تقرير لجنة بيل الملكية عام 1937م الذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وعدم اقتناعها بنجاح فكرة التقسيم؛ فقد قررت الحكومة البريطانية طرح سياسة بديلة والدعوة لعقد مؤتمر يشارك فيه العرب الفلسطينيون واليهود الصهاينة وممثلون عن حكومات العراق والسعودية ومصر وشرقي الأردن، لتدارس المسودة التي أعدت في هذا الشأن، وقد انعقد المؤتمر في لندن في قصر سنت جيمس واستغرق انعقاده نحو أربعين يوماً امتدت من 7 شباط إلى 16 آذار/1939م حيث خصصت المرحلة الأولى منه لدراسة مراسلات حسين - مكماهون لعام 1915م بناء على طلب الوفود العربية، علماً بأن تلك المراسلات بقيت طي الكتمان إلى أن نشرت بشكل غير رسمي في ملاحق تقرير لجنة بيل الملكية عام 1937م، ثم ظهرت في كتاب جورج أنطونيوس "يقظة العرب" الذي صدر في لندن في عام 1938م.
قام وزير المستعمرات مالكوم ماكدونلد الذي تبنى التغيير في السياسة البريطانية والذي اقترن الكتاب الأبيض باسمه، بإبلاغ الجهات العربية والعربية الفلسطينية بأن الحكومة البريطانية يستحيل عليها أن تسير أكثر مما سارت إليه "لأن الجو حافل بالسحب"، ولأن الحكومة البريطانية بحاجة لمساعدة الحكومة الأمريكية في حالة وقوع الحرب، وقال: "إن الحكومة البريطانية عازمة على تجميد السياسة الصهيونية تجميداً يحفظ للعرب كيانهم وحقوقهم، وإن مجلس العموم البريطاني على استعداد للموافقة على ما نتفق عليه، وهذا ليس ميسوراً في جميع الظروف"، وهكذا في 27 أيار 1939م، أصدرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض وذلك بعد أن حصلت على مصادقة مجلس العموم البريطاني عليه في 22 أيار 1939م بأغلبية 268 صوتاً مقابل 178 صوتاً، وفي ضوء أن الحكومة البريطانية كانت تستمد شرعية حكمها لفلسطين من عصبة الأمم المتحدة، فقد كان مقرراً في وقت لاحق أن يتم عرض الكتاب على العصبة للمصادقة عليه، حيث نوقش في لجنة الانتدابات التابعة للعصبة ورفض بأغلبية أربعة أصوات مقابل ثلاثة أصوات، ولم تأخذ الحكومة البريطانية بذلك واعتبرت تصويت لجنة الانتداب مجرد توصية، غير أنه قبل التاريخ المقرر لاجتماع مجلس العصبة في 15 أيلول 1939م كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت في 3 أيلول 1939م بدخول بريطانيا الحرب ضد ألمانيا، ولم يجتمع مجلس العصبة منذ ذلك الحين حيث ما لبثت العصبة أن انحلت لتقوم مكانها بعد انتهاء الحرب في عام 1945م هيئة الأمم المتحدة.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله أبو دجانة
رأيك في الموضوع