اندلعت احتجاجات عارمة في صورة مظاهرات غاضبة في أغلب مدن السودان، بما فيها العاصمة الخرطوم، منذ الأسبوع الماضي، أدت إلى مقتل مجموعة من المتظاهرين، وجرح العشرات منهم، على أيدي القوى الأمنية التي تصدت لهذه الاحتجاجات بالعنف المفرط، حيث استخدمت الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، والهراوات، بل والرصاص الحي، وقد قام المتظاهرون بحرق بعض الممتلكات العامة والخاصة، وإغلاق الطرق بحرق إطارات السيارات، هاتفين بسقوط النظام ورحيله... فما هي الأسباب التي دفعت الناس للقيام بهذه الاحتجاجات، والتظاهر ضد النظام؟
إن المتابع للأحداث في السودان يرى أنه ومنذ انفصال جنوب السودان، وذهاب معظم البترول جنوباً، بدأت الحالة الاقتصادية في السودان تتدهور، حتى وصلت قمتها مع بداية هذا العام 2018م عندما رفعت الحكومة أسعار الخبز، ورفعت قيمة الدولار الجمركي لثلاثة أضعاف، في ظل تراجع قيمة العملة المحلية، ما انعكس سلباً على معاش الناس، فارتفعت الأسعار بصورة غير مسبوقة، وتوالت بعد ذلك الأزمات في الوقود (ديزل- بنزين) وغاز الطبخ. ورغم رفع سعر رغيف الخبز إلى جنيه واحد، لم يتوفر طوال الشهور الأخيرة، فصار الحصول على رغيف الخبز من المخابز يحتاج إلى الوقوف الساعات الطوال، في صفوف طويلة، هذا في العاصمة، أما في الأقاليم فقد كان الحال أسوأ بكثير، وزاد الطين بلة قيام البنك المركزي بحجز الأموال عن البنوك، في محاولة لكبح جماح الدولار، الذي أصبح في تصاعد مستمر مما اضطر الدولة لتخفيض سعر العملة أكثر من 60% ليصبح سعر الدولار الواحد 47.50 جنيهاً، ورغم ذلك لم يتوقف ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي، حتى بلغ في بعض الأحيان 80 جنيهاً للدولار الواحد، فتسبب حجب الأموال عن البنوك في أزمة جديدة، حيث أضيفت صفوف جديدة للصفوف السابقة، فأصبح الحصول على الودائع من البنوك، أو عبر الصرافات يستدعي هو الآخر الوقوف الساعات الطوال للحصول على بضعة جنيهات لا تغني ولا تسد حاجة الناس اليومية، كل هذا يحدث والحكومة تصر على المضي قدماً في هذه السياسات الاقتصادية التي أثبتت فشلها في معالجة الأزمات المتلاحقة.
وما زالت الحكومة سائرة في تنفيذ روشتات صندوق النقد الدولي الكارثية، فقد طالب الصندوق الحكومة بتعويم العملة المحلية، ورفع الدعم كلياً عن المحروقات، والقمح، والكهرباء، متعهداً مع البنك الدولي بتقديم المساعدات الفنية للسودان في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي المزعوم، وكان هذا التعهد بالدعم من المؤسستين الدوليتين على هامش اجتماعهما في جزيرة بالي بإندونيسيا في تشرين الأول/أكتوبر 2018م. أما متى طالب صندوق النقد الدولي الحكومة بتعويم الجنيه فقد كان ذلك في تقرير سنوي أعده الصندوق عن السودان في كانون الأول/ديسمبر 2017م مؤكداً أن ذلك يعتبر ضرورياً لخلق الظروف اللازمة لاجتذاب المستثمرين، وتعزيز التنمية الاقتصادية في البلاد، كما طالب الصندوق بإلغاء دعم الكهرباء والقمح بين عامي 2019-2021م بعد تعويم العملة.
وبعد اندلاع المظاهرات بدأت الحكومة تتخبط كعادتها، فتأتي تصريحات مسئوليها عن معالجة هذه الأزمات متناقضة ومتضاربة، فمرة يقولون إن الدقيق متوفر، ولا توجد أزمة، وأن أصحاب المخابز هم من يبيعون الدقيق في السوق السوداء، ثم يأتي تصريح من مسئول آخر بأن هناك عجزاً في الكمية التي تعطى للمخابز وسنسعى في الأيام القادمة لسد العجز... ثم قاموا بتعليق الدراسة بالمدارس والجامعات ظناً منهم أن ذلك سيحل الأزمة أو يوقف الاحتجاجات. ثم بدأت الاتهامات، فمرة يقولون إن الأحزاب السياسية بريئة مما يحدث، وأن كيان يهود وخلايا لعبد الواحد محمد نور هم من يقومون بالتخريب وحرق الممتلكات، وتارة أخرى يقولون إن بعض الأحزاب السياسية وراء هذا الخراب، وأنهم سيتعاملون بحزم وحسم، وما إلى ذلك من الأقوال المتضاربة التي تؤكد فقدان البوصلة لدى الحكومة...
لم تكن الاحتجاجات والمظاهرات وليدة الأزمة الحالية، فقد تظاهر الناس في السودان عشرات المرات ضد الأنظمة بمختلف مسمياتها (ديمقراطية حزبية - عسكرية - شمولية) وغيرها، بل قام الناس في السودان بثورتين أطاحتا بالأنظمة القائمة في تشرين الأول/أكتوبر 1964م وفي نيسان/أبريل 1985م، ولكن النتيجة بعد كل الهبات والثورات والمظاهرات والاحتجاجات كانت واحدة، وهو عدم تغير الحال إلى المأمول، وإنما مسكنات التغيير الأولية، ثم تعود الحال إلى ما كانت عليه بل وأسوأ، حتى صار الناس يحنون في كل مرة إلى النظام السابق الذي ثاروا ضده... فلماذا يحدث هذا؟ يحدث هذا لأن التغيير الذي يحصل في كل مرة هو تغيير شكلي داخل الصندوق الرأسمالي الغربي نفسه، في ظل ثبات الأنظمة والقوانين التي يضعها البشر حسب أهوائهم، فكان من الطبيعي أن تظل الأزمات هي الأزمات نفسها في كل مرة، ومعالجاتها هي المعالجات العرجاء ذاتها، فكان هذا الدوران في الحلقة المفرغة الملعونة. إذن فما هو المخرج من هذه الأزمات، وما هو العلاج الصحيح لمشاكل السودان؟
إن العلاج الجذري لمشاكل السودان ليس في منحة مليارية تأتي من دولة قطر أو من غيرها، وليس كذلك في تغيير طاقم الحكم الحالي مع بقاء الأنظمة الوضعية المرتبطة بالغرب الكافر المستعمر ومؤسساته، إنما العلاج الجذري يكمن في إيجاد فكرة سياسية صحيحة وواعية، تعالج الأوضاع من جذورها، ولا بد لهذه الفكرة أن تكون منبثقة عن عقيدة الأمة، والحمد لله فإن الناس في السودان مسلمون، والإسلام نظام كامل من عند رب العالمين، ليس لأهل السودان أو حتى المسلمين فحسب، إنما هو نظام للبشرية جمعاء، نظام إذا أحسن تطبيقه فهو رحمة للعالمين، كيف لا وقد عاشت البشرية في ظل نظام الإسلام قروناً لم يشهد فيها العالم عدلاً مثل عدله، فإن الخلافة وحدها هي القادرة على معالجة مشاكل السودان من جذورها، وإدارة الثروات الظاهرة والباطنة التي حباها الله أهل السودان لمصلحة الأمة، ولا تجعلها نهباً للمستعمرين كما هي الحال اليوم.
فيا أهل السودان اعملوا مع العاملين من أجل التغيير الجذري، بالعمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي بشر بها الحبيب e، فإن التغيير إذا لم يكن خلافة راشدة على منهاج النبوة فهو لا يزال تغييراً داخل صندوق الحكم الجبري.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع