(الجزء الثاني والأخير)
خامسا: بعد أن استطاعت الدولة العميقة ومؤسسات الإعلام في البرازيل خلع الرئيسة ديلما وتنحية حزب العمال عن الحكم رسميا، ومع اشتعال حرب فتح ملفات الفساد التي يمتلكها كل طرف لإدانة الآخر، نشأ عن ذلك فراغ سياسي كان لا بد من ملئه في مرحلة انتقالية، لا سيّما أن التوكانوس (رجالات الدولة العميقة) ما زالوا محل اشمئزاز ونفور من قبل شرائح كبيرة من الشعب، وكذلك هو حال المؤسسات الإعلامية المساندة لهم وفي مقدمتها العملاق الإعلامي الأكثر نفوذا (قناة غلوبو).
ولحل هذه المعضلة أو في سبيل حلها تسير الدولة العميقة في مسارين متوازيين، أحدهما موكل بالرئيس الجديد الفاسد ميشيل تامر، والآخر موكل بالنائب المغمور جاير بولسوناريو.
فبعد أن غدر ميشيل تامر وحزبه (PMDB/MDB) حلفهم مع حزب العمال الحاكم، وقام بتسهيل عملية خلع ديلما عبر ممثليه في مجلسي الشيوخ والنواب بالتحالف مع الحراك الذي يقوده التوكانوس الذي مني بالخسارة لمرشحه للرئاسة الفاسد آسيو نافيس ضد ديلما في انتخابات عام 2014 تم تنصيب تامر رئيسا للبلاد، وبدأت مرحلة تامر ومهمة تامر والتي تتمثل بـ:
- 1. عقد الصفقات الحساسة، والتمهيد والتوطئة لمن بعده من الحكومات بتلك الصفقات التي يتم خلالها بيع الشركات والمؤسسات والثروات الوطنية للأمريكان، ومن الشواهد على ذلك إعلان بيع مصافي البترول التي تملكها شركة (بيتروبراس Petrobras -)، فبعد أن كانت حكومات حزب العمال قد أوقفت توجهات الخصخصة وفي عهدها علت الأصوات المجرمة لبيع الثروات الوطنية للقطاع الخاص والمستثمر الأجنبي، كان دور تامر استئنافَ هذا التوجه وإحياءه خدمة لمن سهل له وللتوكانوس الانقلاب، أي خدمة لأمريكا.
- الذهاب بالبرازيل والحالة الاقتصادية إلى القاع ما أمكن، ومن الشواهد على ذلك عمليات الملاحقات القضائية بتغطية إعلامية فاضحة لشركات قطاع اللحوم والدواجن ذات الثقل التجاري عالميا (العلامة التجارية (Sadia وكذلك الحال لشركة )أودبريشيت ODEBREC0Ht-) للمقاولات الإنشائية، مما يؤثر سلبا على صادرات البرازيل وبالتالي يزيد من تفاقم البطالة، وكذلك من الشواهد سماح الدولة ممثلة بحكومة وإدارة تامر بحدوث إضراب سائقي الشاحنات - أو تصعيد الأزمة مع سائقي الشاحنات حتى وصلت للإضراب - الذي كان قد أعلن عنه وحذر منه مسبقا، ولكن الدولة تركته يحدث لمدة أسبوع شلت به الحياة الإنتاجية على طول البلاد وعرضها، وما زال أثره صارخا في ارتفاع أسعار السلع في الأسواق.
أما الغرض من هذا التأزيم المقصود والموجه والمفتعل الذي أنيط بـتامر فهو لتوظيفه في زيادة الحنق على حزب العمال بتصوير هذا التدهور كثمرة للكم الهائل من الفساد في عهدهم! وكذلك لخلق حالة من التردي المسيطر عليها يسهل علاجها فور قدرة التوكانوس على العودة إلى سدة الحكم، فيحسب لهم ذلك كإنجازات سياسية واقتصادية ويحصدون مجددا الشعبية المفقودة.
- تمرير القوانين والتشريعات التي تخدم أصحاب رؤوس المال ممن يشكلون الدولة العميقة وتهضم حقوق العمال والفقراء، والتي من شأنها أن تودي بشعبية أي حزب وحكومة تقرها وتسقطهما، ومن الشواهد على ذلك قانون التقاعد الجديد.
سادسا: بعد أن كسدت الحياة السياسية في البرازيل بفعل حرب الفضائح المتبادلة بين الأحزاب والأوساط المتنفذة، وبعد أن اتسعت المسافة من جهة بين الاهتمام والثقة الشعبية ومن الجهة المقابلة الأوساط السياسية والشأن السياسي، وبعد أن استطاعت الدولة العميقة أن تكبد حزب العمال و(لولا) هزيمة نكراء في التشوية والمقاضاة والإقصاء، كان لا بد من استدعاء النموذج الشعبوي؛ لتحريك الركود الشعبي تجاه الحياة السياسية وانتشال الأوساط التقليدية المتنفذة من وحل النقمة الشعبية، والالتفاف على أي توجه يحمل في طياته نزعات الاستقلال والتحرر من التبعية الأمريكية وجشعها، فكانت ظاهرة (بولسوناريو) المرشح الرئاسي اليميني المتطرف في الجانب الاجتماعي - بحسب تصنيفاتهم - وذي الخلفيات العسكرية، والتوجهات الليبرالية في الجانب الاقتصادي.
إن خلق ظاهرة (جايير بولسوناريو) وصناعته كانت بتدبير وحنكة من الدولة العميقة عبر الإعلام الرسمي الفاقد للمصداقية والمسخوط عليه شعبيا، فبفتح النار على بولسوناريو من على شاشات هذا الإعلام وعبر أقلامه وصفحاته الرسمية تم إبرازه في المشهد السياسي وتصويره كحامل للواء التغيير الذي يحلم به كل برازيلي، والمحارب للمنظومة القائمة التي تسربلت بالفساد وسرقة المال العام، والمجاهر بالرفض لمقدسات حريات الشذوذ التي فرضت بقوة القانون وأنتجت بغزارة في الإعلام.
فقد تم فتح المنابر الإعلامية للمدعو بولسوناريو للخوض في مواضيع مجرّمة بالقانون، كرفض الشذوذ الجنسي ومناقشته والتهجم عليه لآرائه والتي عمليا دغدغت مشاعر الأغلبية التي لا تجرؤ على مجرد التلميح بهكذا رأي، وما كان لبولسوناريو ذاته أن يجرؤ على الخوض بهذه المواضيع إلا بعد ضوء أخضر مسبق من الدولة العميقة سمح له فعل ذلك لإنجاز دوره! فبذريعة استهجان طرحه فتح له الإعلام أبوابه.
ترافق ذلك مع مؤازرة قوية من قبل مراكز استطلاع الرأي، التي استمرت خلال قرابة الثلاثة أعوام في تقديمه بنتائج استطلاعاتها المكذوبة بصورة المنافس الأقوى شعبيا على منصب الرئاسة.
وبرغم أن جايير بولسوناريو هو نائب برلماني ويتقلد مناصب سياسية ويتقلب في الأحزاب السياسية ضمن المنظومة القائمة في البلاد منذ قرابة الثلاثة عقود، إلا أنه لم يكن معروفا جماهيريا، ولم يكن أبدا ذا شأن، ولم يسجل له موقف واحد سلبي أو إيجابي في ولايته (ريو دي جانيرو) - الولاية الأكثر تعرضا لأحداث دموية وفوضوية نتيجة فقدان الأمان وضعف الأمن - فهو في الحقيقة ابن النظام، وما تصويره بعكس ذلك إلا لكسب الشارع، ولترويجه وتشكيله بما يتناسب مع ظاهرة الشعبوية.
أما المهام الموكلة بظاهرة (بولسوناريو) فهي:
1. كما سبق وذكرنا؛ تحريك الركود في الحياة السياسية وإنعاشها بعد أن كادت أن تنهار.
٢. التوقيع على الصفقات الحساسة في مسار خصخصة الشركات والثروات الوطنية للمستثمر الأجنبي (الأمريكان) بعد أن مهد لذلك في عهد تامر.
٣. العمل على بث خطاب الكراهيةتجاه العرب والمسلمين باصطفافه غير الطبيعي مع كيان يهود، بما يؤسس ويبرر لزج البرازيل في موجة محاربة (الإرهاب) وتوظيف الطاقات البشرية الهائلة في البرازيل وحتى أمريكا اللاتينية كلها في خدمة أمريكا وجيشها.
٤. إبراز الرجل ومساره على أنه عودة للحكم العسكري الصارم بقصد وتدبير، وذلك ظاهر في اختياره (اختير له ممن أوجده!) لنائبه الجنرال ماوراو المثير للجدل أيضا، وهذا الأمر يقصد منه ترتيب الأوراق لما بعد تقلده الحكم وإتمام العقود والصفقات التي سيبيع فيها ثروات البلاد لأمريكا باسم الخصخصة، وبعد أن يشحن الشارع بالخطاب الكنسي ضد الإسلام! ويغذي التوجه الصليبي في الشارع البرازيلي بحيث يصبح الشعب مهيأً للقذف بأبنائه في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولكن يسيرون إليها استجابة للنداء المقدس! بعد هذه المهمات القذرة الرئيسية وغيرها تأتي المهمة الأهم للدولة العميقة (التوكانوس والإعلام) وهي استعماله كجسر عبور في مرحلة استعادة ثقة الشارع الذي سيتم إقناعه بأن بولسوناريو وحكومته قد داسوا على قيم الديمقراطية وأنهم أعادوا البلاد للديكتاتورية العسكرية التي كافحوا للتخلص منها لعقدين من الزمان (1964-1985)، وبذلك تتقدم قناة غلوبو المشهد وقيادة الـتوكانوس، فيتم استقبالهم كأبطال ومناضلين ضحوا من أجل البرازيل ووقفوا في وجه العسكر في أوج قوتهم وهم في الحكم! كما أنهم حذروا منهم قبل وصولهم للحكم، ولديهم الأدلة والشواهد على مواقفهم المعادية ظاهريا للعسكر ومسار بولسوناريو، فيسهل خلع العسكر من الحكم، وتعود الحياة الديمقراطية مجددا تحت قيادة الـتوكانوس رسميا عبر صناديق الاقتراع!
سابعا: من بعض شواهد الأيدي الأمريكية للتأثير على المشهد السياسي الحالي في البرازيل:
۱. المكالمة الهاتفية الشهيرة بين الرئيسة في حينه ديلما والرئيس الأسبق لولا المسربة في آذار من عام 2016 والتي كانت القشة التي قصمت ظهر ديلما؛ لأنها أخبرت لولا في المكالمة أنها عينته كبير موظفي الرئاسة كي يحظى بالحصانة فلا يسجن في قضايا غسيل أموال فتحت له.
تلك المكالمة سلمت لقناة غلوبو عبر القاضي الفيدرالي سارجو مورو بعد ساعتين من إتمامها، وكان قد حصل عليها من الـسي آي إيه.
٢. القاضي الفيديرالي سارجو مورو المكلف بملف ملاحقات الفساد للرئيس السابق لولا، تدرب وتم تجهيزه وإعداده لهذه المهمة في أمريكا عبر الـسي آي إيه، وعلاقاته مع أمريكا غير خفية.
٣. الشركات التي تم توجيه الضربات لها عبر عمليات ملاحقة الفساد كشركتي (فري-بوي صاحب العلامة التجارية ساديا) وشركة (أودوبراشت) هي شركات برازيلية متقدمة على الشركات الأمريكية، وجاءت هذه العمليات لإضعافها أمام المنافس الأمريكي في الأسواق العالمية.
٤. شركة (بتروبراس) فور إعلان الانقلاب تم السعي لبيع 60% من مصافيها الوطنية.
٥. شركة (إمبراير) لصناعة الطائرات يتم حاليا السعي لبيعها لشركة (بوينغ) الأمريكية.
٦. بعد أن كانت البرازيل حليفا وسندا لـفنزويلا ها هي تحاصرها اليوم منصاعة للأوامر الأمريكية.
ثامنا وختاما: إن العودة الأمريكية الجديدة لأمريكا اللاتينية، ومحاولات الإحكام الكامل بها بكل تفاصيلها الاقتصادية والسياسية، بدءا بالبرازيل ومرورا بالأرجنتين - التي دعمت واشنطن رئيسها الحالي للوصول للحكم ليغرقها بالديون للبنك الدولي - ولا ينتهي الأمر في فنزويلا وكولومبيا التي طلبت الأخيرة من قوات حلف النيتو حماية بلاده من الأولى! فتصبح القوات الأمريكية والقواعد الأمريكية في قلب القارة الجنوبية مساندا لترتيبات أمريكا الجديدة في المنطقة التي جندت لها قوى سياسية في الإعلام والقضاء والأحزاب.
إن هذه العودة وبهذا الزخم وهذا الإحكام قد يقول البعض إنه مؤشر قوة لأمريكا، وقد يكون كذلك، ولكن ما لا يبصره إلا من تركّز عنده الوعي وحمل مبدأ صحيحا يعلم من هذا كله أن أمريكا تدرك أنها باتت على وشك الخروج من المسرح الدولي، وأن ذلك يستوجب عليها ترتيب حديقتها الخلفية؛ كي تكون مقدمة لها في الصد عنها، لا مقدمة عليها للقضاء على ظلمها وفجورها.
ولعل الله يفشل مساعي أمريكا ويجعل تدميرها في تدبيرها وتكون هذه القارة وبالاً وحسرة عليها.
بقلم: الأستاذ ياسر أبو خليل - البرازيل
رأيك في الموضوع