لا تزال منطقة شمال إفريقيا على امتداد تاريخها محل أطماع لمختلف القوى المؤثرة في أوروبا والتي تمثل في الثقافة السياسية الأوروبية العمقَ الحيوي الذي يجب الهيمنة عليه وذلك بـ:
أ - منعه من أن يتوحد
ب - ألاتكون له قيادة مخلصة
وهي اليوم وإثر فترة الاستعمار المباشر وتحول حق الهيمنة السياسية على هذا الإقليم الشمال إفريقي والمسمى سياسيا بالمغرب العربي الكبير إلى بريطانيا بحكم الترضيات التي قدمها "شارل ديغول" رائد المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني لفرنسا أيام الحرب العالمية الثانية إلى "ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا حينها، أيام وجوده في العاصمة البريطانية طلبا للمساعدة على تحرير فرنسا من الغزو الألماني كأحد الشروط التي فرضها تشرشل على محاوره الفرنسي والذي لم يجد بُدّا من تخليه عن هذا الجزء من مستعمرات بلاده للحليف الخصم مع إدراكه اليقيني أن فرنسا لا تساوي شيئا بدون مستعمراتها، حيث إن بريطانيا ترى نفسها، وبحكم تفوقها على كل القوى الأوروبية وتعاليها عليهم، ترى نفسها (الوريث) الشرعي لروما في شمال إفريقيا وفي قرطاج تحديدا، لعجز روما أو غيرها من العواصم الأوروبية عن الحيلولة دون هيمنة (الرعاع)، سكان البلاد الأصليين، على إقليمهم والذين قد يشكلون خطرا على أوروبا (المتمدّنة)!
إلّا أن ظهور أمريكا كلاعب جدي وخطير على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بل ومهيمن على الموقف الدولي، غيّر من قواعد اللعبة التي وضعتها القوى الأوروبية وتواضعت عليها في تعاملها مع هذه المنطقة،مما سمح لأمريكا أن تفتعل مشاكل وأزمات لحلفائها الخصوم ولتتخذها أسلحة وأدوات لمناكفتها ومصارعتها وسعيها لتجد لنفسها موطئ قدم والحلول محلها بعد إخراجها من هذه المناطق. إلّا أن جملة القضايا التي افتعلتها أمريكا في استراتيجية صراعها مع أصحاب النفوذ هناك لم تثمر ما كانت ترجوه أمريكا.
- فأزمة الصحراء الغربية التي لم تجنِ أمريكا من وراء ركوبها ما كانت ترجوه من نفوذ ووجود ميداني رغم طول فترة الصراع حول هذا الجزء من الصحراء الكبرى ولعدم انجرار الطرفين الرئيسيين المغرب والجزائر إلى الصراع المسلح مما فوت على أمريكا فرصة التدخل المباشر في هذا النزاع وفي المنطقة كلّها.
- وكذلك فشل أمريكا في استثمار ما يمثله مثلث الحدود "الجزائرية، المالية، الليبية" من خزان للثروة، ومجال لتهريب السلع والسلاح والمخدرات، أو كونها طرقا سهلة للهجرة غير الشرعية وعمقا مثاليا لصناعة "الإرهاب"، للإيقاع بين دوله واستثمار هذه القضايا في طريق هيمنتها على هذه المنطقة.
- ولم تكن ما سميت بالمسألة الأمازيغية، والتي لم تعرفها المنطقة في تاريخها الطويل منذ استقرار الإسلام في هذه الربوع وتبني أهلها الأصليين البربر، للإسلام معتقدا ونهج حياة، لم تكن كافية لأمريكا لتوظيفها في محاولتها مزاحمة بريطانيا على شمال إفريقيا، لاختصاص فرنسا بهذه المسألة ثم لوعي المخلصين من أبناء القبائل وإدراكهم أن الإسلام هو عصمتهم وأن المكر الفرنسي الصليبي ليس لمصلحة أبناء البلد وأن الأمر مرحلي لما تمر به الأمة من فترة ضعف.
كل هذه العوامل لم تستطع أمريكا استثمارها على الوجه الذي يمكنها من مزاحمة بريطانيا جديا في حديقتها الخلفية، شمال إفريقيا، لوجود حشد من العملاء المخلصين لها مما شكل جبهة صلبة للدفاع عن مصالحها السياسية والاقتصادية، استحال على أمريكا اختراقها، خاصة مع وجود ديناصورات العمالة والولاء الخالص لها مثل بوتفليقة وبطانته في الجزائر والباجي والغنوشي في تونس وحشد واسع في ليبيا تربَّوا في بيئة رعاها "الموقوذ" القذافي على الولاء لإنجلترا وقضائه على أيّ نبت زرعته أمريكا.
وهو الأمر الذي دفع أمريكا إلى التركيز على الشرق الليبي باعتماد القوة وسياسة كسر الأبواب، حين أوكلت لعميلها حفتر والذي ربته لعقدين عندها وأعدته لهذه المهمة ولمثلها وأطلقت يده يفعل ما يشاء دون حسيب بهتكه للأعراض وارتكابه الفظائع وجرائم الحرب خاصة بعد أن نجحت في تسويقه تحت عنوان "المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني" وهي الصفة التي يعمل المهيمنون على الحياة السياسية في غرب ليبيا والعاصمة طرابلس على تجاهلها ونفيها عنه بالإشارة إليه بعبارة "قوات القائد العسكري خليفة حفتر" ووضعه في صورة المتمرد على الشرعية ومحاولة دفعه للاعتراف بقيادة الطبقة السياسية المهيمنة في طرابلس ورفض الاعتراف به كشريك سياسي، الأمر الذي تعمل له أمريكا بقوة لفرضه ندا وشريكا خاصة بعد إسناده بالمجرم السيسي كداعم سياسي وعمق عسكري.
إلا أن سيطرة ما يسمى بـ"الجيش الليبي" على منطقة الهلال النفطي وافتكاكها مما يسمى بـ"المليشيات المتشددة"، وهي المنطقة التي تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة، كونها تحتوي على 80% من ثروةالبلاد النفطية، كما تضم أهم موانئ تصدير النفط، أربك رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراجوفريقه الذي يبحث عن اعتراف بسلطته على طرابلس من مختلف فصائل الثوار الحقيقيين الذين لا ينكر أحد دورهم الفعلي في القضاء على القذافي واستعصائهم على الترويض من قبل سماسرة السياسةفالتجأ إلى الدفع نحو الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بحثا عن مشروعية وهمية ووصولًا إلى "الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة" ومن ثَمّ تحميل مسؤولية الأزمة الليبية إلى الذين يرفضون هذا الخيار، في حين ترى القوى المهيمنة والمتخذة من طبرق قاعدة لها أن ذلك من المناورات الدولية للقوى الاستعمارية التي تريد بسط سيطرتها على ليبيا، بل وصل الأمر حد التهديد بالمواجهة وأن الأمر لن يمر إلا بسياسة خلع الباب. واعتبار أن الدعوة إلى الاستفتاء أو الانتخاب مخادعة والتفاف على الاتفاق السياسي المبرم بين الفريقين، حكومة طرابلس وحكومة طبرق والذي يعطي المشروعية والندية الكاملة لحفتر والمتعاونين معه خاصة بعد أن أتقن حفتر فصول مسرحية تسليم الموانئ والمنشآت النفطية التي هيمنت عليها قواته إلى المؤسسة الوطنية للنفط التابعة للحكومة الليبية المؤقتة التي تتخذ مدينة البيضاء، شرق ليبيا، مقراً لها باعتبارها "الجهات الشرعية"، وبالتالي إلى الحكومة الليبية المؤقتة وإضعاف موقف مجلس رئاسة حكومة الوفاق برئاسة السراج واعتبار تصرفهم في عائدات النفط عبثاً بمقدرات البلاد. وذلك بحثا عن التأييد الدولي وإظهار الخصم في صورة الخارج عن القانون حتى وصل الأمر حدّ اتهام القيادي في جماعة الإخوان المسلمين علي الصلابي بدعم (الإرهاب) علنا وهو الأمر التي ردت عليه سلطة طرابلس والقوى الدولية الداعمة لها باتهاممحمود الورفلي الضابط بقوات القائد العسكري حفتر والمشرف على القوات الخاصة في مدينة بنغازي بارتكاب جرائم حرب دون توجيه التهمة مباشرة إلى حفتر وقواته.
وفي ظلّ هذه الأوضاع المرتبكة والصراعات المدمرة التي تضع أهل ليبيا تحت طائلة مواقف الفرقاء المتصارعين خدمة للقوى الاستعمارية، تدعم كل فريق منهم قوى إقليمية تزيد الوضع سوءا وتعمق الهوة بين الإخوة وتعسّر رؤية الحل. ففي حين تقف مصر والسودان وتشاد بقوة مع حفتر والقوى السياسية والقبلية التي تسنده، تتظاهر تونس باتباع سياسة الحياد للخروج بعلاقتها مع سلطة طرابلس التي لم يستتب لها الأمر، لامتناع "القوى الثورية" بالتسليم لها، إلى الوضع المقبول دوليا، بينما يظل الموقف الجزائري قائما على منع تمدد النفوذ المصري إلى المنطقة الغربية للحيلولة دون التمدد الأمريكي، ويبقى على أهل ليبيا إدراك أن الخلاص يظل حصرا في الاحتكام إلى شرع الله، في كل شأنهم ورأس الأمر إقامة الخلافة على منهاج النبوة فصلا لما بينهم وجبرا لكسرهم وكبتا لعدوهم.
بقلم: الأستاذ عبد الرؤوف العامري
رئيس المكتب السياسي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع