لا تزال أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تحمي دول الاتحاد الأوروبي وتمنعه من الاندثار، ولا تريد قطع الشرايين التي تمده بالحياة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهي تضمن له البقاء واستئناف السير، فبعد أن خرجت دوله ولم يكن ثَمَّ اتحاد بعد، سيما بريطانيا وفرنسا منهكة من الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا وقد أصبحت الدولة الأولى في العالم فقد أخذت على عاتقها إعادة أوروبا إلى سابق ما كانت عليه قبل الحرب، فكان بذلك مشروع مارشال الذي انتشلها من أزمتها الاقتصادية والمالية، وأعاد إعمارها من جديد وكان من موجبات هذا التصرف الأمريكي حينها، المحافظة على أوروبا قوية تقف ندا في وجه الاتحاد السوفيتي الذي سطع نجمه، وبدا قوة لا يستهان بها ما قد يشكل خطرا على أمريكا سيما أنه يحمل مبدأ، وبقيت أمريكا تأخذ على عاتقها تقوية أوروبا ودول الاتحاد، إلا أنها ومنذ فترة رئاسة أوباما يبدو أنه بدا على سياستها تجاه الاتحاد ودوله بعض التغيير، فلم تعد حريصة على بقائه متحدا (ولو اسما) بل إن ترامب صرح في أكثر من نادٍ بأنه يدعم تفكيك الاتحاد، وهو لا يخفي ابتهاجه وابتهاج إدارته بخروج بريطانيا من الاتحاد، بل ويدعو دول أوروبا وهو يقصد فرنسا وألمانيا بأن تحذو حذو بريطانيا، وقد كانت أمريكا وما زالت تمنع أي إخلال في ميزان القوى بين دول الاتحاد سيما ألمانيا وفرنسا الآن، وبعد خروج بريطانيا منه، وقد سبق لها أن دخلت الحرب العالمية الأولى والثانية حتى تمنع إحدى دول الاتحاد من التغول والسيطرة على باقي دول أوروبا، فهي عندما تقوم على إضعاف ألمانيا فإنما يكون ذلك إضعافا لا يجعل فرنسا تبتلعها، وهكذا كانت تفعل طوال وقتها يوم أن كانت فرنسا وبريطانيا تقودان أوروبا ودولها.
إن أمريكا ومنذ مشروع مارشال عقب الحرب العالمية الثانية، وفرض العقوبات الصارمة على ألمانيا وبالذات في التصنيع العسكري لا زالت شركاتها وبنوكها ومؤسساتها بل وقواعدها العسكرية تملأ أوروبا شرقا وغربا، ولا زالت الشركات الكبرى في أوروبا تملك أمريكا فيها حصة الأسد وقطاع الإلكترونيات استحوذت عليه الشركات الأمريكية استحواذا كاملا، فقد سيطرت شركة جوجل وفيسبوك وآبل على كامل السوق الأوروبية، وحتى في قطاع صناعة النفط فإن شركة شيفرون الأمريكية للطاقة تتحكم في معظم صناعة النفط والغاز الأوروبية.
إن الضعف الذي بدا واضحا على دول الاتحاد سيما فرنسا وألمانيا، كشفته الأزمة الأخيرة التي افتعلتها أمريكا مع إيران وانسحابها من الاتفاق النووي معها، فما إن هددت أمريكا بالانسحاب، حتى بدا على ألمانيا وفرنسا الارتباك الشديد ما جعل الرئيس الفرنسي يتوسل أمريكا لعدم الانسحاب من الاتفاق، ولكن أمريكا وإذ تهدف من انسحابها تسديد ضربة موجعة للاقتصاد والشركات الأوروبية التي استفادت من توقيع الاتفاق، لم تلق بالا لفرنسا ولا لألمانيا مع أن كلتا الدولتين وقعتا عقودا مع إيران بعشرات المليارات من الدولارات، وقد أعطت أمريكا مهلة لهذه الشركات لإنهاء أعمالها والخروج من السوق الإيرانية، وإلا فإنها ستتعرض لعقوبات صارمة وما زالت فرنسا وألمانيا (أحير من ضب في حمّارة قيظ).
أما الأزمة الثانية التي افتعلتها أمريكا لتضرب بها أوروبا، فهي أزمة الرسوم الجمركية، التي وضعتها على الفولاذ والألمنيوم وفرض رسوم استيراد باهظة على ذلك، ومع أن ذلك مخالف لقوانين منظمة التجارة العالمية التي تلزم الدول الموقعة عليه بانسياب التجارة البينية فيما بينها دون أية رسوم أو جمارك، إلا أن أمريكا ضربت عرض الحائط بالقوانين والأعراف، فلما أرادت حماية التصنيع الداخلي وتنشيط التجارة الداخلية فرضت هذه الرسوم على أوروبا، بعد أن فرضتها على الصين والمكسيك، فما كان من أوروبا (ألمانيا وفرنسا) إلا أن هددتا باللجوء إلى منظمة التجارة الدولية.
إن أوروبا لم تكن في يوم من الأيام موحدة بالرغم مما يبدو عليها من مظاهر الوحدة، ولم تكن في يوم من الأيام تملك سياسة خارجية موحدة وثابتة لدولها، فمصالح بريطانيا غير مصالح فرنسا، وغير مصالح ألمانيا، وما منصب منسق السياسة الخارجية للاتحاد والبرلمان الأوروبي، والمحكمة الأوروبية، إلا ألفاظ مملكة في غير موضعها، فألمانيا لا تجيد السياسة بعد أن غادرتها منذ زمن، وهي لا تعدو الرافعة المالية لأوروبا، وقد رضيت لنفسها هذا الدور منذ عقود، وفرنسا لا تجيد المناورات السياسية وسياستها مكشوفة إذا أرادت القيام بأي عمل سياسي، ما يسهل على أمريكا إحباط أعمالها، وبريطانيا رضيت لنفسها أن تساير أمريكا وتتعايش معها ولو على حساب مكانتها وتاريخها، وهي وإن كانت ما زالت قوية بعملائها، إلا أنها لا تقوى على مجابهة أمريكا أو الوقوف في وجهها، وما زالت أمريكا تنتزع منها الدول الواحدة تلو الأخرى؛ فمن مصر إلى إيران إلى العراق والآن محاولة أخذ اليمن وليبيا، هذا ومع أن بريطانيا بعد (البركست) لم تعد فعليا ضمن الاتحاد ودوله، وإذا أضفنا لهذا كله الأزمة التي تعصف بإيطاليا سياسيا واقتصاديا والتي قد تعجز الرافعة المالية لأوروبا (ألمانيا) عن انتشالها كما فعلت مع اليونان، فإيطاليا تمثل ثالث قوة اقتصادية في أوروبا بعد ألمانيا وفرنسا، بناتج محلي يزيد على الترليون ونصف الترليون دولار، وإنها إن أعلنت إفلاسها فإن ذلك سيكون بمثابة الكارثة التي تحل بالقارة العجوز وستقف ألمانيا عاجزة أمام ذلك...
إن أمريكا لا زالت لم تتخذ القرار العملي لتفكيك أوروبا، لأنها قد لا تجد فيها أو منها ما يخيف، ولا زالت تمنع دولها من الاندثار أو التفكك، وإن كانت إدارة ترامب صرحت في أكثر من مكان بأنها تفضل التعامل مع دول أوروبا منفردة، فهذا وزير التجارة الأمريكي يقول بعد أزمة إيران والرسوم الجمركية بأن أمريكا تفضل التعامل مع الدول الأوروبية كلا على حدة، ولعل فرنسا أظهرت أنها مستعدة للحوار مع أمريكا منفردة، ولو كان هذا خلافا لرغبة ألمانيا وهي تريد بذلك أن تحذو حذو بريطانيا في السير مع أمريكا، وإذا نجحت أمريكا في جعل فرنسا تسلك سلوك بريطانيا فإنها تكون بذلك قد فككت الاتحاد فعلا، ولو بقي الاتحاد قائما شكلا، والسؤال الذي تجيب عنه الأسابيع أو الأشهر القادمة هو: هل تستطيع أوروبا أن تستعيد أنفاسها؟ أم أنها ستلفظها وتكون أمريكا بذلك قد فعلت فعل الأسد مع الثيران الثلاثة؟!
بقلم: الأستاذ أبو المعتز بالله الأشقر
رأيك في الموضوع