إن من المُسلّمات عند الحديث عن بناء الدول وسقوطها هو أن للعاصمة الثقل الأكبر والمركز الأساس الذي يحدد ميزان القوى وطبيعة الصراع، ولذلك فمن البدهي أن يُطرح السؤال ويتكرر طرحه "تُرى لماذا لم يصل الثوار إلى دمشق وقد قاربت الثورة أن تُنهي عامها السابع؟ وما الذي يحول بينهم وبين رأس الأفعى؟".
ولنقفَ على معالم هذا الطريق ونتلمسَ خطاه لا بد أن ندرك بداية أهمية الإجابة على هذا السؤال، وأهميته تكمن في طبيعة أي حراك سياسي، فلا بد للحراك السياسي من هدف واضح وغاية مبلورة يسعى للوصول إليها، والثورة في الشام قد حددت هذا الهدف بكل وضوح منذ بداياتها فكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو الهدف الذي يسعى له كل ثائر صدحت حنجرته بقول "لا" لنظام أسد المجرم؛ وإنه من الطبيعي أن يكون طريق الوصول للهدف واضحاً مبلوراً، وهذا ما افتقده البعض خلال الثورة، ألا وهو الطريق إلى دمشق بهدف إسقاط النظام المجرم.
إن هذا الطريق لا يبدأ بخطة عسكرية ولا بامتلاك عتاد وأسلحة، وإن كان هذا مما سيحتاجه السائر في هذا الطريق، ولكن لا بد أن ندرك أولاً نقطة البداية التي ننطلق منها، فهذا الطريق يبدأ بتصوّر البديل الذي سيحلّ مكان النظام بعد إسقاطه، فلا يُتصور أن تهدم بيتاً دون أن تمتلك تصوّراً عما ستبنيه بدلاً عنه، وكذلك فإن وجود هذا التصور لدى السائرين في هذا الطريق سيُحدد لهم كثيراً من معالم هذا الطريق، وكذلك فإنه سيُبين لهم المخاطر والعقبات التي ربما ستعترضهم في طريقهم، فلذلك كان اعتبار "إسقاط النظام" هدفاً ليس كافياً بل لا بد أن يقترن بالتصور عن النظام البديل.
وعندما افتقد كثير من الثائرين هذا التصوّر تقاذفتهم أمواج التآمر المحيطة بالثورة، ورست بمركبهم على برّ الغرب، وربما قذفت بهم فأغرقتهم فاستصرخوا ولا من مُجيب، هذا حال من افتقد التصوّر، أما من أخذ تصوّره ورؤيته من أعدائه فذاك قد أوحلت قدماه في قاع الأرض فلن يستطيع أن يسير في طريقه وبقي يُردد كلام أسياده ظانّاً أنهم سيُنقذونه يوماً ما فقط لأنه خُدع بشعاراتهم البراقة التي تدّعي زوراً حفاظها على حقوق الإنسان.
لهذا كلّه كان لا بد للثائرين في الشام أن يمتلكوا تصوّراً عن النظام البديل حتى يحفظوا أنفسهم وثورتهم من الضياع في متاهات السياسة الدولية، ويقوا أمتهم شرّ ما يُحاك لها في دهاليز السياسة، فيتلمسوا خطاهم نحو الهدف بكل ثبات وإرادة، وهذا ما سعى حزب التحرير في سوريا ومنذ انطلاقة الثورة ليُوضحه للثوار، فهو قدّم مشروعاً سياسياً مستنبطاً من كتاب الله وسنة نبيه e، هذا المشروع هو تصوّرٌ كامل عن نظام بديل عن كل أنظمة العالم اليوم، وبتبنّي هذا المشروع والعمل على إيجاده واقعاً واستئناف الحياة الإسلامية به، بذلك تتضح معالم الطريق، وتبرز مراحله ومحطاته، ويحمل في طياته التحذير من كل العقبات التي ربما تعترض هذا الطريق.
فإن الناظر إلى واقع ما وصلت إليه الثورة اليوم يجد أن لكل انحراف عن الطريق سبباً يعود إلى غياب هذه الرؤية الواضحة أو تبني رؤية أخرى مُستقاة من مشكاة الغرب الكافر، فمثلاً لم يكن للثوار أن يقبلوا مالاً سياسياً - أدى إلى ما أدى إليه من انحراف البوصلة وتغيير وجهة الصراع، فحصل الاقتتال وبِيعت البلاد وحوصرت المناطق جراء التسمم بهذا المال - لم يكن لهم أن يقبلوا هذا المال لو أنهم تبنّوا مشروع الإسلام ففي طياته تحذير من الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة.
وكذلك فإن انجرار البعض خلف إرضاء الغرب لم يكن ليحصل لو تفهّم أولئك الساعون لمرضاة الغرب، قوله تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، فمشروع الإسلام فوق أنه يرسم شكل نظام الحكم في الإسلام فإنه كذلك يحذر حاملي المشروع من كل خطر مُحدق بهم فالإسلام حذر من مُجرد الركون للظالمين فكيف بما هو فوق الركون؟! قال تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾.
وعوداً على بدء، فإن الطريق إلى إسقاط النظام يبدأ بتبني مشروع الإسلام وهذه الخطوة تُحدِّد ما يليها، فالإجراءات العملية التي ستُتبع في هذا الطريق تُحدَّد تباعاً فور السير في الطريق، فإن عُرض مالٌ سياسي رُفِض لأن المشروع حدّد ذلك، وإن دُعي الثائرون للمشاركة في حلٍّ رسمت معالمه دول الغرب، فكذلك يُرفض المشاركة فيه، وتكون كل الخطوات مقيّدة بالحكم الشرعي فقط، دون النظر لمرضاة أحد من الناس، فيسعى الثائرون لجمع كلمتهم حول هذا المشروع، ويُوجهون بندقيتهم بخطة تُسقط النظام في عقر داره في دمشق.
فالذي يحول بين الثوار في الشام وبين دمشق العاصمة عقر دار النظام ليس خطة عسكرية حاذقة فحسب، بل هو تبني المشروع الإسلامي المُستنبط من الكتاب والسنة والذي سيُحدد لهم كل خطوة سيخطونها وكل حركة يسيرون بها، فبتبني هذا المشروع يكون الطريق إلى دمشق سالكاً، وهذا التبني يتطلب قراراً ذاتياً من الثائرين في الشام، والقرار لا بد له من إرادة صلبة وثقة بنصر الله وإيمان راسخ بأنه هو الناصر لعباده والمُعزّ دينه ولو كره الكافرون.
رأيك في الموضوع