من النقاط التي يجب أن تتنبه لها أي دولة تبحث عن الدور العالمي هي مسألة الهيمنة الإقليمية وعدم وجود دولة تصارع المركز. ومما يجب الانتباه له مسألة الجوار الإقليمي وفرض الدولة نفسها كقوة لا تهددها في مركزها دول تستطيع تهديدها حقيقة، فكيف لها الإبحار عالميا والأمواج حولها عاتية قد تجتاح مركزها في أي لحظة؟ وكيف لدولة أن تفرض وجودها الدولي وهي لا تستطيع إثبات ذاتها في جوارها،إلا إذا كان الصراع بين القوى الإقليمية من خلال الأدوات والعملاء وليس مباشرة، كما حدث بين بريطانيا وفرنسا، فقد كان الصراع على غير أرضهما ومن خلال عملائهما ولم يحدث التصادم المباشر بين الدولتين.
ولتوضيح المسألة نقول: إن فرض الدولة نفسها إقليمياً أولاً، وعدم وجود خطر حقيقي على المركز هو الخطوة الأولى والصحيحة نحو العالمية، فمثلاً: قبل أن تخرج أمريكا إلى العالم جعلت من العالم الجديد (الأمريكيتين) منطقة نفوذ خاصة بها كحديقة أمامية وخلفية، وجنّبت تلك المناطق الصراع الدولي من خلال إقرارها لمبدأ مونرو، الذي جعلته قانوناً دولياً؛ فبعد أن أمّنت جوارها، وجعلت من دول الجوار نفوذاً حقيقياً لها وحدها، وحرّمت عليه الصراع الدولي، انطلقت في فضاء العالم لتتبوأ مكانة الدولة الأولى.
ومثال آخر على النفوذ الإقليمي الذي يسبق النفوذ العالمي؛ هو ما فعله رسول الله e؛ حيث سيطرت الدولة الإسلامية الناشئة على جوارها في كامل الجزيرة بعد أن كانت قريش العقبة التي تحول بينها وبين نشر الدعوة، للانطلاق نحو الجزيرة العربية، فقام e بخطة محكمة من مرحلتين:
١- مرحلة تحييد قريش بصلح الحديبية، وكان صلحاً ونصراً بنص القرآن الكريم، حيث انطلقت الدعوة في أرض الجزيرة العربية بعد الصلح مع قريش.
٢- مرحلة القضاء على كيان قريش نهائيا بفتح مكة ودخول مكة الإسلام ودخولها تحت حكم دولة الإسلام.
ولتطبيق هذا على الصين، لا بد من التذكير بخطورة منطقة الشرق الأقصى وأهميتها ومكانتها، وتعدد القوى الكبرى والنووية فيها واختلاف مصالحهم، بل وتناقضها إلى درجة الحروب، بل بعض دولها كانت عالمية في مرحلة ما وهي تحاول حاليا استعادة مكانتها ولن يكون سهلا عليها أن تسلم للصين دورها وقيادتها، فضلا على أن تكون خاضعة وتابعة أو على هامش الدول لا قيمة لها؛ فتاريخ هذه الدول ومكانتها ليس بعيدا حتى يغيب عن الأذهان. وسنذكر هذه الدول واحدة تلو الأخرى، وخطرها على الدور العالمي للصين، وهل بإمكان الصين تلافي هذه المخاطر مجتمعة أم منفردة وما هي استراتيجيتها:
أولى هذه الدول والتي تعتبر عُقدة الصين الكبرى هي اليابان. فقد احتلت اليابان الصين مرتين في حروب مروعة.
* الأولى: كانت للسيطرة على كوريا، ابتدأت الحرب في 1 آب/أغسطس 1894م وانتهت في 3 نيسان/أبريل 1895م، وانتصرت فيها اليابان.
* أما في الحرب الثانية:
فقد بدأت في 7 تموز/يوليو 1937م وانتهت في 11 أيلول/سبتمبر 1945م، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية أعلنت اليابان استسلامها بعد الضربة النووية على هيروشيما وناجازاكي. ولولا خسارة اليابان للحرب لا نعلم إلى ما كانت ستؤول إليه الصين؟ ومدة الاحتلال؟ وهل ستبقيها موحدة أم لا؟ ومدى قدرة الصين على التعافي من آثار الحرب؟
ولكن بعد صعود الصين لهذه المكانة الكبرى، وأخذها للمكانة الاقتصادية الثانية عالميا، وتراجع اليابان للمرتبة الثالثة اقتصاديا وظهور بوادر القوة الصينية العسكرية والاقتصادية، وما تقوم به في بحر الصين الجنوبي وبناء القواعد والمنشآت العسكرية، ومطالبتها بخضوع أكثر من 80% من بحر الصين لمجالها الإقليمي، وفي المقابل الضعف الذي طرأ على الكيان الأمريكي بعد حربي العراق وأفغانستان، والأزمات المالية والاقتصادية، لكل ذلك شرعت الولايات المتحدة بسياسة استخدام الآخرين وتوظيفهم لمصلحتها، وكان هذا واضحا في عهد أوباما باستراتيجية القيادة من الخلف، واستخدام كل الأدوات والأوراق لمواجهة خطر معين، لذا رأينا أمريكا تغض النظر عن سياسة شينزو آبي خلال ولايته الأولى في 2006، بوضع قوانين غير متوافقة إلى حد كبير مع الدستور، تسمح بدور أكبر للتعاون الأمني مع شركاء أجانب. ومراجعة الحظر المفروض على إرسال قواته للخارج، إضافة لاقتراح إنشاء مجلس أمن وطني، ومع عودة «آبي» لرئاسة الوزراء في 2012 أحيا خططه العسكرية القديمة، ويعمل الآن على تعديل المادة التاسعة من دستور البلاد. فقد فاز حزبه بأغلبية الثلثين في مجلس المستشارين في تموز/يوليو 2016، خلافًا لسيطرته على مجلس النواب، فضلا عن زيادة الإنفاق العسكري لليابان، حيث أقر البرلمان زيادتها بنسبة 1.5% عام 2016، وبهذا بلغ الإنفاق العسكري الياباني سنويًا 42.4 مليار دولار. إضافة لمساعيه في تعزيز القوات بمعدات ذات طبيعة هجومية مثل رغبته في شراء حوالي 40 طائرة «إف 35» الأمريكية.
سمحت إدارة أوباما لليابان بتطوير قوات وأدوات عسكرية ذات طبيعة هجومية. وفي نيسان/أبريل 2015 اتفق البلدان على مجموعة منقحة من المبادئ التوجيهية للتعاون الدفاعي لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، والمتوقع أن إدارة ترامب ستعزز من هذا الدور.
فكيف ستخرج الصين لدور عالمي مع الخطر الكامن في عودة العسكرية اليابانية، خاصة وأن أسباب الحرب قائمة بينهما على الجزر والمياه في بحر الصين والموارد التي تحت البحر؟ فما هي استراتيجية الصين لهذا الخطر وقدرتها على مواجهته مع عبء الثقل العالمي؟ وهل تحسب لهذا الخطر حسابه؟ خاصة أن ورقة اليابان بيد الولايات المتحدة، والعلاقة الاستراتيجية بينهما متينة، مع التزام اليابان التام بالقرار السياسي الأمريكي، خاصة وأن الأمر في مصلحة أمريكا، فترفع القيود أو تغض النظر عن عودة اليابان إلى ماضيها؛ استخداما منها لورقة اليابان في مواجهة التنين الصاعد.
رأيك في الموضوع