أكدت الأمم المتحدة الخميس 14/9/2017 أن الاقتصاد العالمي، المتأثر بسنوات من الفقر وتزايد عدم المساواة ويظل غير متوازن في عدة أوجه ويزعزع الاستقرار، ويشكل خطرا على الأمن السياسي والاجتماعي والبيئي، يحتاج إلى "اتفاق جديد" عالمي مستلهم من السياسات التي وحدت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، في إشارة إلى اتفاق بريتون وودز ومشروع مارشال. وقالت الوكالة إنه "بعد سبعة عقود، هناك حاجة لمجهود طموح لمعالجة عدم الإنصاف الناتج عن العولمة الشاملة من أجل بناء اقتصاديات مستديمة تشمل الجميع". وذكر التقرير أن العالم، على المستوى الدولي والوطني، ينبغي أن يركز على إيجاد الوظائف، وتوسيع نطاق الضرائب للسماح بإعادة توزيع للثروة ووضع ترتيبات لاستخدام الموارد المالية.
ولا يفوت ذا لب وعقل إدراك التوزيع الجائر للثروة في جميع أنحاء العالم الذي تسيطر عليه الرأسمالية سواء في الدول الغنية جدا كأمريكا وألمانيا وبريطانيا أو الدول الفقيرة جدا كالأردن ولبنان والسودان وبنغلادش. حيث إن الإحصاءات التي تنشرها مؤسسات النظام الرأسمالي نفسه تبين أن أقل من 1% من سكان العالم يسيطرون على أكثر من 80% من الثروة، وقد نشرت مجلة فوربس العام الماضي أسماء 500 شخص يملكون أكثر من نصف ثروة العالم!
وبالرغم من استمرار وتكرار الحديث عن برامج ومشاريع للتخفيف من حدة الفقر ونسبة الجياع في العالم إلا أن هذه النسب وعدد الفقراء لا تزال في ازدياد. لقد كانت مجموعة الدول العشرين الأغنى في العالم بالتعاون مع هيئات تابعة للأمم المتحدة اقترحت خططا وبرامج لخفض مستوى الفقر في العالم بمقدار 50% مع حلول عام 2020، إلا أن الإحصاءات تشير إلى أن الفقر قد ازاداد نسبة وعددا وأثرا في المجتمعات بدلا من أن ينقص!
والحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها أرباب الرأسمالية الجشعون هي أن نظام الرأسمالية نفسه هو المسؤول عن إنتاج الفقر وتركُّز الثروة بأيدي ثلة قليلة، وعدم التوازن وبالتالي عدم الاستقرار. فالنظام الرأسمالي في أساسه يؤمن بعدم كفاية الموارد والمنتجات بالنسبة للحاجات، وبالتالي يقرر أنه لا بد أن يكون هناك من يحصل على كفايته من الموارد ليسد حاجاته ومن يبقى دون ذلك فقيرا ومحتاجا. وفي تفسيره لديناميكية السوق يقر النظام الرأسمالي أن التنافس الشديد على الموارد يؤدي إلى حرمان البعض من الموارد والتي تضعف فرصته التالية في العيش، ما يؤدي إلى زيادة ثراء الأثرياء وفقر الفقراء بسبب عدم توازن الفرص. وبالتالي فإن النظام الرأسمالي وسياسة السوق وتوزيع المنتجات بعد إنتاجها بناء على العرض والطلب والقدرة على الإنتاج والاستهلاك كلها تتضافر لتنتج عالما غير متوازن تتجمع فيه الثروات بأيدي قلة قليلة بالرغم من كثرة الثروات. وفي ذلك يؤكدبيتر روسيت، مدير معهد سياسات الغذاء والتنمية في ولاية كاليفورنيا، مؤلف كتاب الجوع في العالم أن الموارد الغذائية في العالم وفيرةٌ وليست نادرة، وأن الملايين يتضورون جوعاً حتى في البلدان التي لديها فائضٌ في الإنتاج الغذائي. ويخلص إلى أن الادعاء بأنه يمكن حل مشكلة الجوع في العالم من خلال زيادة إنتاج الغذاء هو خرافة لا أساس لها.
وإذا أضفت إلى ذلك ما وصفه جيمي كارتر وبريجنسكي بأزمة الأخلاق والقيم التي يفتقد إليها الرأسماليون، فإن النتيجة تغدو طبيعية بزيادة الحرمان واتساع رقعة الفقر. وباختصار شديد فإن الرأسمالية ليس فيها مطلقا ما يعمل على توزيع للثروة بين الناس سواء أكان توزيعا عادلا أم غير ذلك. وجل ما فيها هو عملية تجميع للثروة وإنتاج للفقر.
من هنا فإن ما تدعو إليه منظمات الأمم المتحدة من اتفاقيات جديدة وبرامج للحد من ظاهرة الفقر وتوزيع الثروة ما هي إلا محاولات لضبط حركة الشعوب المظلومة والحيلولة بينها وبين الثورة على النظام الرأسمالي الجائر وهي تنتظر نتائج لن يكتب لها الولادة أبدا.
إن توزيع الثروة يحتاج إلى نظام مغاير تماما للنظام الرأسمالي ويرتكز على أسس وأركان غير تلك التي بنيت عليها الرأسمالية. والحقيقة التي لا يستطيع أن يكابر بها أحد هي أن النظام الإسلامي يحتوي على أسس وأركان تحمل في طياتها توزيعا طبيعيا للثروة ويحول دون تجمعها في أيدي قلة جشعة من الناس. وإن كان التاريخ يشهد بشكل قوي على تميز المجتمع الإسلامي خلال قرون عدة بخلوه من الفقر المقنن والفقر المدقع والدائم، وأن حاجات الناس لم تكن في أزمة في أي وقت من الأوقات، بل إن التاريخ يذكر أن خلفاء المسلمين كانوا يأمرون بنثر الحبوب في الجبال لتأكل الطيور منه ولا تجوع. ولم يكن استئصال الفقر من المجتمعات الإسلامية بفعل برامج ينتهجها الخلفاء وأعمال إبداعية لخليفة دون آخر، بل كانت نتيجة طبيعية لتطبيق أحكام الإسلام وخاصة تلك المتعلقة بالمال والإنتاج والإنفاق.
فالنظام الإسلامي ابتداء لا يقر بشح الموارد وندرتها بل يؤكد على كفايتها بل وزيادتها، وأن الله سخر ما في الكون كله لخدمة مصالح الإنسان وحياته على الأرض. ثم إن الإسلام قد رسخ القيم الأصيلة التي تجعل التنافس الأهم هو التنافس بالعطاء لا بالكسب وجمع الثروة. بل إن الإسلام فرض استثمار الثروة باستمرار وعدم كنز المال مطلقا لغير حاجة منظورة. فلا يصح أن تتكدس الثروة دون استعمال. ثم إن نظام الإسلام قد فرض التوازن في ملكية الأشياء والموارد، فكما جعل للأفراد ملكية يتمتعون بها، جعل للدولة ملكية تستطيع من خلالها النظر في مصالح الناس، ثم جعل للناس بوصفهم الجمعي ملكية تسد بها الثغرات وتقوم بها الحاجات وتحول بين انتكاس الأفراد والجماعات في خانات الفقر والعوز. ثم إن نظام الإسلام قد فرض نظاما محددا لتوزيع الثروة بعد موت مالكها، فلا يستأثر بها فرد واحد كما هو في نظام اللوردات البريطاني، أو توزع حسب رغبات مالكها قبل أن يموت. ونظام المواريث في الإسلام كفيل أن يوزع ثروات الأثرياء والأغنياء خلال جيل واحد إلى أعداد كبيرة من المنتفعين. وإذا أضفت إلى ذلك الأحكام التي منعت تنمية المال بالمال وحده، كما يحصل في تنمية المال بالربا أو بالشركات المساهمة، فإن تجمع الثروة بأيدٍ قليلة يصبح مستحيلا. فالمال الربوي يمكّن مالك المال أن ينمي ثروته على حساب أموال الآخرين مصداقا لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ أي يزداد على حساب أموال الناس. وكذلك الشركات المساهمة التي تمكن أموال مجموعة من الناس أن تنمو وتتكاثر دون أن يكون لهم أدنى جهد في تنمية المال. أما نظام الإسلام فيقتضي أن يكون جهد الإنسان جزءا أساسيا في بناء التشارك في العمل.
والحاصل أن الفقر وتوزيع الثروات والجوع هي أمور لازمة للمجتمعات الرأسمالية ويستحيل اقتلاعها مع وجود الرأسمالية، وما إطلاق المبادرات وعقد المؤتمرات واقتراح الاتفاقات إلا شكل من أشكال التخدير للبؤساء الذين عليهم انتظار نتائج وهمية لسنوات عدة ليخرج عليهم أفاك آخر يدعو لإعادة الكرة مرة أخرى بمبادرات جديدة. وليس هناك من خيار أمام المجتمعات المحلية والعالمية لوأد الفقر والخلاص من العوز والجوع والحرمان وتكدس الثروات الآثم إلا طريق واحد ليس غير. وهو العمل الدؤوب والجدي على إزالة نظام الرأسمالية الظالم بأكمله من العالم، والعمل على استبدال نظام الإسلام العادل به، الذي نزل به الوحي من عند خالق الإنسان وحاجاته وخالق الكون بثرواته، ليقوم الناس بالقسط، وينعموا بما بسط الله لعباده من الرزق. ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا﴾.
بقلم: د. محمد الجيلاني
رأيك في الموضوع