إن أكثر ما يبرز لدى المتتبعين من العوامل والأمور التي تتحكم في معادلة السلطة والقرار السياسي في الجزائر ما بعد "الاستقلال"، عدا المصالح والمنافع التي تحكمها الحزبيةُ والجهوية والانتماءُ المناطقي (المغلفةُ كلها بالوطنية الزائفة)، إنما هو تلك الارتباطات والولاءات للأطراف الفاعلة على الساحة الدولية والجهات الأجنبية (الأوروبية خاصة) ذاتِ النفوذ والأيادي في الأوساط السياسية والعسكرية في البلاد، في سكرةٍ وغفلة قاتلةٍ من أهل البلاد المسلمين!
منذ وصوله إلى سدة الرئاسة في عام 1999م، شرع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في عملية استعادةِ "مكانة الجزائر" على الساحة الإقليمية والدولية وتلميع صورتها الملطخة بدماء مرحلة العنف، وإعادة "السلم والوئام" في الجزائر بعد ما سمي العشرية السوداء ومرحلة الدم. وهو ما كان يعني إبعاد رموزِ المؤسسة العسكرية الذين تصدروا تلك المرحلة التي بدأت فصولها عقب قطعِ الطريق على جبهة الإنقاذ الإسلامية التي كانت قد فازت في الانتخابات البرلمانية التي أجريت لأول مرة في ظل التعددية السياسية عام 1991م. وذلك بعد إلغاء الدور الثاني من تلك التشريعيات وإيقافِ المسار الانتخابي، الأمر الذي أدخل البلادَ (بتخطيط من الانقلابيين) في دوامة عنفٍ و"حربٍ أهلية" ومرحلةٍ وُضع فيها الجيش - بعدما هيمن عليه عملاءُ فرنسا - في مواجهة مفتوحةٍ في الظاهر مع ما سمِّي "قوى التطرف والإرهاب والأصولية" أُطلق عليها اسم "المأساة الوطنية"، وفي الخفاء مع مَن كان يُمسك بزمام السلطة منذ "استقلال" البلاد عن فرنسا وخاصةً منذ وصول بومدين ورجاله إلى الحكم في 1965م. وقد مثَّـلت عودةُ بوتفليقة وصعودُه إلى أعلى هرم السلطة في الجزائر بعد غياب دام عشرين عاماً قضاها بين أوروبا وبعضِ دويلات الخليج (الإمارات تحديداً)، تحولاً في مركز السلطةِ والقرار لصالح الإنجليز مجدداً بعدما تمكنوا من ترجيح كفة عملائهم في الطرف المدني والعسكري من المؤسسة الحاكمة في البلاد.
فبعدما اعتلى جماعة الإنجليز مجدداً مواقعَ اتخاذ القرار في الجزائر - حدث أن تصادفت مع طفرة نفطيةٍ غيرِ مسبوقةٍ تجاوز سعر النفط خلالها 140 دولاراً - شرعوا في تقليص نفوذ الطرف الآخر الموالي لفرنسا، خصوصاً في الجيش (أي في قيادة الأركان وجهاز الأمن). وكان ضباط فرنسا في المؤسسة العسكرية قد غيروا بالفعل التوازنَ في منظومة الحكم من خلال انقلاب 1992م، الذي سارعوا بعده إلى محاولة السيطرة على ما أمكنهم من دواليب السلطةِ وأدوات الفعل السياسي ومن مواقع التأثير ومراكز النفوذ في مؤسسات الدولة، المدنية منها والعسكرية. ومن هذه الأدوات المهمة والأطراف المؤثرة في الساحة السياسيةِ المحلية جبهة التحرير الوطني. وحيث إن جبهةَ التحرير الوطني لم تكن يوماً حزباً سياسياً مستقلاً عن السلطة وعن إرادة صانعي القرار، فقد كانت انتهازيةً تخضع بكل هياكلها وكوادرها في مراكز القيادة (خصوصاً الأمانة العامة واللجنة المركزية والمكتب السياسي) لنفس منطق التحولات، وكانت تتبع منذ نشأتها لرأس الدولة أي لمن يكون في موقع الرئاسة. فهي حزب السلطة فعلاً في البلاد منذ 1962م. علماً أن أولئك الضباط الموالين لفرنسا كانوا قد أقدموا منذ زمن بعيد على النفاذ إليها وزرع العناصر الموالية لهم في ثناياها في الوقت ذاته الذي اندسَّ كثيرٌ منهم في صفوف جيش التحرير الوطني بتخطيط من ديغول منذ 1956م، أي من بدايات الثورة. وقد مكنهم هذا التغلغلُ المخطط في المؤسسة العسكرية (بعد "الاستقلال") من اعتلاء مناصب مهمةٍ في وزارة الدفاع ومن إنجاز مرادهم، لا سيما بعدما أعادوا هيكلة الأجهزة الأمنية (تهيئةً للمرحلة الجديدة) لتنضوي كلها تحت "جهاز الاستعلام والأمن" منذ 1990م، الذي أوكل إليه تسييرُ مرحلةِ الانقلاب وما بعدها، أي مرحلة محاربة ما سمي الإرهاب والأصولية والإسلام السياسي. وكان من صنائعهم أيضاً أن أسسوا في 1997م واجهة سياسيةً لهم، منافسةً في الظاهر - مكملةً في الحقيقة - لجبهة التحرير الوطني، هي التجمع الوطني الديمقراطي، ضمن توافق القوى الاستعمارية الأوروبيةِ على حكم الجزائر.
إلا أن بريطانيا مكَّنت سريعاً عملاءَها من العودة بقوة إلى الواجهة وإلى مواقع التأثير السياسي، بعد إخفاق الجنرالات في تسيير دفة الحكم بالعقلية العسكرية والأمنية، وبحكم عراقة جبهة التحرير في العمل السياسي، وبحكم تجذرها في أوساط المجتمع كافة، حيث استطاعوا - بمجيء بوتفليقة ورفاقه - استرجاعَ قوة التأثير في الساحة السياسية من خلال لعبة المصالحة الوطنية ولعبة التوافق ووفرة المال ووهم "إبعاد العسكر" عن الشأن السياسي وفكرة تحقيق الحكم المدني! فقد أقدم بالفعل بوتفليقة على تنحية الكثير من الضباط السامين وإحالتهم على التقاعد، خصوصاً الذين كانوا في الواجهة خلال فترة الصدام الدموي والمواجهة والعنف في التسعينات (من القرن الماضي).
وفي الوقت الذي كان - بوصفه رئيساً للدولة وبوصفه وزيراً للدفاع وقائداً أعلى لجميع القوات المسلحة - يُـبعد الخصومَ من أمثال الفريق محمد العماري قائد أركان الجيش السابق واللواء العربي بلخير وزير الداخلية والجماعات المحلية منذ 1991م وخلال فترة انقلاب يناير 1992م، كان يُقَرِّب رجالَه والموالين له في الأوساط المدنية والعسكرية على السواء، ويضعهم في مواقع التأثير والقرار، كما فعل مع الفريق أحمد قايد صالح الذي استعان به وأسند إليه رئاسةَ هيئة الأركان منذ شهر 8 (آب) 2004م (برتبة لواء حينها)، ثم تمت ترقيته إلى رتبة فريق يوم 5/7/2006م، كما أسند إليه أيضاً نيابةَ وزارة الدفاع منذ شهر 9 (أيلول) 2013م. تمكن هذا الفريق منذ تسلمه مهامه - من خلال موقعه وضمن مهمته - من لجم أو إبعاد الكثير من الضباط والقيادات العسكرية غير الموالية، خصوصاً من قادة النواحي والدرك ومختلف الأسلاك التي تخضع لوزارة الدفاع. تمت السيطرة أيضاً على جهاز الشرطة بعدما جيء بالجنرال عبد الغني الهامل مديراً عاماً للشرطة خلفاً لـ علي التونسي الذي تم إبعادُه باغتياله في يوم 25/2/2010م.
وكان طبيعياً أن يبدأ العمل - في عملية استعادة مواقع النفوذ داخل المؤسسة العسكرية - بقيادة أركان الجيش تحديداً، وينتهي بالأجهزة الأمنية المتغلغلة في الأوساط المدنية كما في الأوساط العسكرية، التي سعى من يمسكُ بالسلطة إلى إعادة تشكيلها مجدداً وفق مقتضيات ومتطلبات المرحلة. فقد شرع بوتفليقة وزمرتُه في عملية تفكيك (إعادة هيكلة) الجهاز المذكور بغرض تحجيم دوره في المؤسسة العسكرية من خلال سلطته على قيادة الأركان بوصفه وزيراً للدفاع الوطني، كما عملوا على تقليص نفوذه في الوسط السياسي من خلال جبهة التحرير الوطني بوصفه رئيساً (شرفياً) لها.
وقد كان من أبرز الأدوات التي استُخدمت في خلخلة ثم تفكيك جهاز المخابرات شخص عمار سعداني المقرب من والمحسوب على قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح وما بات يعرف بمجموعة عنابة ضمن زمرة بوتفليقة (عنابة مدينة على الساحل في أقصى شرق البلاد). هذه المجموعة التي يعود إليها الفضل في بروزه (رغم وضاعته) من خلال كتلة جبهة التحرير في البرلمان، ووصوله إلى رئاسة المجلس الشعبي الوطني (2002 - 2007م) ثم صعوده وفرضه يوم 29/8/2013م في موقع الأمانة العامة في جبهة التحرير الوطني، التي ظلت تتقاذفها المصالـحُ الضيقة والولاءات لأصحاب القرار والمال والارتباطاتُ على أساس الجهوية منذ نشأتها كما أسلفنا، لـيُمكَّن سعداني ومَن معه من أداء وظيفتهم على الوجه المطلوب. والحقيقة هي أن عمار سعداني كان قد فُرض أميناً عاماً للجبهة بقرار من الجهات العليا أي من طرف الرئاسة وقيادةِ الأركان منذ 2013م خلال أشغال الدورة السادسة للجنة المركزية، في أجواء من التناطح الضاري بين الكتل المتناحرة وفي خضم مشاكسات وصراعاتٍ حادة مع خصومه داخل الجبهة وخارجها، لجأ بعدها معارضوه إلى القضاء، حيث شرع بعد تنصيبه فوراً في القيام بما كان مطلوباً منه باندفاع وشراسةٍ غير معروفةٍ في عمل جبهة التحرير الوطني من قبل.
كان كل شيء يسير وفق ما كان يبدو انسجاماً تاماً داخل هذه العصبة المهيمنة على مراكز القرار، التي تتلقى التوجيهات من الرئاسة، عدا جهاز الاستخبار والأمن الذي كان قد شُرع في إعادة ترتيبه وفق أوامر وأولويات الرئاسة ولم تُستكمل عمليةُ تفكيكه حينها بعد. إلا أنه حدث أن أصيب عبد العزيز بوتفليقة بجلطة دماغية خطيرة في شهر 4 (نيسان) 2013م (غاب بعدها 80 يوماً عن المشهد ليعود إلى الجزائر يوم 17/07/2013م) فقدَ إثرها قدرته على تسيير شئون الدولة وتقلص وجودُه في ساحة التأثير بشكل كبير، وهو ما أوجد فراغاً ملحوظاً في مؤسسة الرئاسة سعى مَن جاء به إلى السلطة لملئه بمحيطه ومَن حوله (ومنهم على وجه الخصوص أخوه السعيد بوتفليقة) في انسجام شبه تام وبدعمٍ من قيادة الأركان في الجيش. وقد حرصوا طوال هذه الفترة على تكريس الاستمرارية باسمه بغض النظر عن حالته الصحية التي بقيت حقيقتُها سراًّ، وبغض النظر عمن يحكم حقيقةً في الجزائر أو مَن يتحدث باسم الرئيس أو يمضي المراسيم باسم "فخامته"! كما حرصوا على الإبقاء على منظومة الحكم و"التوازن" الجديد بعد هيمنة جماعة الإنجليز على الحكم كأنَّ الرئيس لم يحدث له شيء! ومع أن خصومَهم اقتربوا بالضغط السياسي مراراً من تفعيل المادة 88 من الدستور التي تحكم حالةَ شغور منصب الرئاسة بعجزٍ أو غيره، إلا أن قيادةَ الأركان وهي الطرف القوي في المعادلة كانت تحول في كل مرة دون إحداث أيِّ تغيير، أي دون تحقيق ما كانوا يصبون إليه، وهو تنحية بوتفليقة. وقد فعل أنصار الرئيس المستحيلَ - وما زالوا - لإظهاره أمام العدسات في الحملات الانتخابية وفي مختلف المناسبات وافتتاح الدورات وتدشين المؤسسات كأنه صحيح معافى، قائم بشئون الحكم كما لو كان شاباً يافعاً، رغم كل ما قيل وشوهد من حالته الصحية ونقله مراراً إلى المستشفيات الأوروبية (الفرنسية خاصة) في أوضاع جد حرجة! يذكر أنه مثلاً وهو في هذه الحالة جرى ترشيحه (لاحقاً في 2014م) مجدداً و"انتخابه" - وسط جدال حاد في الأوساط السياسية والإعلامية حول حالة صحته - لعهدة رابعةٍ من خمس سنوات على الرغم من اختفائه عن المشهد كلياً، حيث قام غيُره بالحملة الانتخابية!! قام بهذا الدور على وجه الخصوص كل من رئيس الحكومة عبد المالك سلال ورئيس ديوان الرئاسة أحمد أويحيى وعمار سعداني ووزراء من الطاقم الحكومي كـ عمار غول وعمارة بن يونس وغيرهما، في سابقة لم تحدث في تاريخ الدول! فكان أن "انتخب" الشعبُ في مهزلة فريدةٍ يوم 17/04/2014م "شبحاً" مقعداً حالتـُه الصحية مجهولة!
وقد فعلوا كل ما بإمكانهم منذ ما قبل مرض الرئيس لضبط إيقاع الساحة الاقتصادية والثقافية والإعلامية أيضاً وفق ما كان يجري على الساحة السياسية، وذلك بتنصيب وتوظيف الموالين لزمرة الرئيس في موقع رئاسة الحكومة وفي الوزارات ومختلف المؤسسات (من أمثال شكيب خليل) ورموز "المجتمع المدني" والأحزاب الموالية وحتى في المساجد والزوايا. ومن ذلك مثلاً الإتيان بـ علي حداد على رأس منتدى رؤساء المؤسسات وأرباب العمل (وهو المقرب من شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة) بدل رجل الأعمال إيسعد ربراب الذي أُبعد كونه محسوباً على الطرف الآخر، وذلك من أجل التحكم في الساحة أيضاً من خلال الاقتصاد والمال ورجال الأعمال!
إلا أن الفراغ الذي أحدثه مرضُ الرئيس وانسحابه كلياً أو غيابه (ولو جزئياً) عن ساحة التأثير أثار شهيةَ الحكم والسيطرة لدى كل من رئاسة قيادة الأركان (الفريق أحمد قايد صالح) وكذلك في محيط الرئيس، سعى كل منهما لاستغلاله في تعزيز موقفه والتموقع داخل هذه العصبة المرتبطة سياسياً بالإنجليز وكسب النفوذ ضمن لعبة التمسك بـ"فخامة الرئيس" وتأييد برنامج الرئيس، حياًّ أو ميتاً!! وهو ما جعل قائدَ الأركان يسعى مبكراً في كسب التأييد لتعزيز نفوذه بدعم مجموعته ورفاقه والمحسوبين عليه (مصلحياً وجهوياً) في مؤسسة الجيش. فُهمَ كل ذلك سياسياً أنه على حساب الرئاسةِ خصوصاً وأن كل ما كان يقوم به الأمين العام في جبهة التحرير الوطني عمار سعداني (المخول من نائب وزير الدفاع) كان يُحسب على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أي وزير الدفاع نفسه كأنه صادر عنه بوصفه رئيساً للدولة وأيضاً رئيساً (ولو شرفياً) للحزب الحاكم في البلاد الذي هو جبهة التحرير الوطني!
وإذ تسبب كل ذلك في إيجاد قطبين متصارعين متنافسين بقوة على النفوذ والزعامة في الجهة المقابلة لجهة الضباط والجنرالات الموالين لفرنسا والفاعلين في الساحة السياسية من أمثال خالد نزار والجنرال توفيق ورفاقهم ومناصريهم ومَن أتى بتوفيق في 1990م على رأس جهاز الاستعلام والأمن (ليمكث في موقعه إلى غاية 2015م)، صار لا بد من وضع حد لهذه القطبية والحالة الانقسامية بما يُـمكِّن من إعادة "التوازن" وضبط الساحة السياسية في المرحلة القادمة. وهو ما جعل بقاء عمار سعداني في مركز القيادة في جبهة التحرير الوطني في المحك، وباتت أيامه في موقع الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني معدودة. وهو الرجل الذي تناول بكلام حاد رموزاً وشخصياتٍ كثيرةً وأبدى مواقف غريبةً في ملفاتٍ شائكة عديدة منها ملف الصحراء الغربية (مثلاً)، والذي كان يبدو متغولاً في الساحة وقوياً نافذاً من خلال تصريحاته النارية وجرأته غير العادية على الخصوم. يجب ألا ننسى أنه عقب تنصيبه في هذا الموقع مجدداً بإعادة انتخابه أميناً عاماً لجبهة التحرير الوطني يوم 8/6 (حزيران) 2015م كان تلقى رسالةَ تهنئةٍ من قائد الأركان شخصياً، الأمر الذي كان يعني دعماً غير محدود من المؤسسة العسكرية، أي تأييداً وتثبيتاً له في موقعه وتمكينه بقوة من تسليط الضربات الموجعة تجاه الخصوم باندفاع وجرأة خارقة، وصلت إلى إزاحة رئيس جهاز الاستعلام والأمن من منصبه. ورغم أن الرسالةَ زادت مؤقتاً من وزنه سياسياً أمام خصومه وأشعرته أنه لن يُهزم بعد ذلك اليوم، إلا أنها أوجدت - هي وتصريحاتـُه - استياءً كبيراً في جميع الأوساط المناوئة داخل جبهة التحرير وخارجها. والحقيقة هي أن قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح (ومَن حوله) بدا منهم بشكل واضح طموح لأخذ موقع الرئاسة (بدوافع المصلحة والعصبة والجهة) في حالة شغوره فعلاً بموت الرئيس أو عجزه كلياً أو بغيره، وهو ما أغضب وأزعج محيط الرئيس والفاعلين باسمه أيما إزعاج، حيث إن سعداني لم يكتف على ما يبدو بأداء الدور الذي كان مطلوباً منه، خصوصاً وأنه اختار بشكل جلي الانحيازَ إلى الطرف الأقوى بنظره (وهو قيادة الأركان) التي هي في الحقيقة منضوية في وزارة الدفاع وتحت أوامر وسلطة الرئيس (الغائب الحاضر) المرتبط بالخارج أي بالإنجليز، والذي ظل يحتفظ منذ قدومه بمنصب رئيس الدولة ووزير الدفاع والقائد الأعلى لكل القوات المسلحة. وفي السياق نفسه - كما أسلفنا - سعى قائدُ الأركان لتقوية نفوذه في الجيش بتنصيب الموالين من العسكريين في قيادة النواحي والمواقع المهمة في مؤسسة الجيش، وهو ما جعل قيادةَ الأركان يتعاظم دورها أكثر مما كان مطلوباً منها عندما كان عبد العزيز بوتفليقة ممسكاً بزمام الأمور والسلطة في البلاد.
تقرر إثر ذلك في أعلى هرم السلطة وضعُ حد لهذا الانتفاخ والاندفاع في الساحة السياسية، حيث أصبحت مسألة تنحية سعداني من الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني التي هي الذراع السياسي الأهم لدى أصحاب القرار في البلاد - كخطوة أولى ستتبعها خطوات - قضيةَ وقتٍ تنتظر الفرصةَ المناسبة، حتى جاءت - بعد غياب دام أشهراً - تصريحاتُـه وحماقاتُه بالتعرض للكثير من رموز الدولة والنظام القائم في الجزائر ماضياً وحاضراً، وهو النظام القائم على توافق القوى الاستعمارية الأجنبية الأوروبية في الإمساك بالسلطة في البلاد. حدث ذلك خلال ظهوره الأخير وخطابه الذي تهجم فيه مجدداً على توفيق شخصياً (ومَن معه ومَن وراءه، أي ضباط فرنسا) وجهاز المخابرات السابق، حيث قال إنه هو مَن كان وراء أحداث غرداية في جنوب البلاد واحتجاجات عين صالح على الغاز الصخري واحتجاجات البطالين من الشباب في مدينتي ورقلة وتقرت وغيرها، كما تهجم على سلفه في أمانة جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم حيث ربطه وعائلتَـه بفرنسا وبضباط فرنسا وكذلك على رئيس ديوان بوتفليقة أحمد أويحيى... فعل كل ذلك بألفاظ وعباراتٍ ساخرة و"بلطجية" سياسية غيرِ معهودةٍ وغير محسوبة العواقبِ والتداعيات من موقع الأمين العام لجبهة التحرير الوطني التي بوتفليقة هو رئيسها! أدخل بذلك كله الرئاسةَ بمن فيها في وضع حرج للغاية عجلت برحيله وإقالته بأوامر فوقية خلال انعقاد دورة اللجنة المركزية للحزب في يوم 22/10/2016م.
بدا جلياً في هذه الأثناء أن قطب الرئاسة مد يده مجدداً لقطب توفيق (الذي لم ينته سياسياً) ورفاقه ومناصريه ضمن المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية خاصةً من المحسوبين على منطقة القبائل تحديداً والمرتبطين سياسياً وثقافياً بفرنسا، من أجل وضع حد لطموح ضباط قيادة الأركان، بالنظر إلى ما ستشهده البلاد من استحقاقات مقبلة: التشريعيات في شهر 4 (نيسان) 2017م والانتخابات المحلية بعدها ثم الرئاسية في 2019م، التي كان قطب قائد الأركان يسعى من خلال جبهة التحرير الوطني والأطراف الموالية لطرز نتائجها وإخراجها على مقاسه. يجب التنبيه أيضاً إلى أن طموحات قائد الأركان في الاستحواذ على السلطة السياسية وتعاظم دوره ومناصريه من خلال التناطح السياسي في هذا الظرف في مقابل نفوذ ضباط فرنسا سياسياً وعسكرياً (الذي لم يتبخر في الهواء بعد مجيء بوتفليقة رئيساً) قد يفتح باباً للانقسام والتصدع في الجيش، وهو ما لا يقره أصحاب القرار من وراء المتوسط الذين هم حريصون على وحدة القيادة في المؤسسة العسكرية في انسجام مع القيادة السياسية التي في الواجهة والتي تمنع حدوث أية ثغرةٍ قد تنفذ منها قوى دولية منافسة. يؤشر أيضاً إلى هذا التوافق في هذا الظرف بالذات تخلي علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات والمرشح السابق - والخاسر في سباق الرئاسة لعامي 2004م و2014م والمحسوب على المناوئين لعصبة الرئيس - تخليه عن خطاب "شغور منصب الرئاسة" بعد أن كان من أقوى المطالبين بتفعيل مواد الدستور ذات العلاقة.
فكان طبيعياً والحال هذه أن أولَ من يجب إزاحته هو عمار سعداني الذي كان أداة الضغط في تنحية الجنرال توفيق تحديداً. وتقول بعض المصادر أن توفيق رئيس جهاز الاستعلام سابقاً اشترط في العمل على تقليص دور قيادةِ الأركان في المسرح السياسي (بما كان ولا يزال يمتلك من نفوذ في الوسط العسكري خاصة) تنحيةَ سعداني من الأمانة العامة لجبهة التحرير، فصار من مصلحة جميع الأطراف الفاعلة سياسياً إزاحته من موقعه، وهذا ما كان، أي هذا ما قُبل وأُنجز. وليس بعيداً أن تمتد يد الرئاسة أيضاً - خصوصاً إذا ما تحسَّنت حالةُ الرئيس الصحية، إذ هذا هو ما يُروَّج هذه الأيام في الإعلام بغرض إبعادِ فكرةِ الشغور بل وفرضِ منطق الحضور والإمساكِ بزمام الأمور - ليس بعيداً أن تمتد يد الرئاسة أيضاً لإعادة تشكيل هيئة الأركان نفسها على مستوى القيادة بإقصاء (ولو بعض) القياداتِ المناوئةِ لسيطرة زمرة بوتفليقة على مقاليد السلطة من بين العسكريين.
هذا المنحى من الرئاسة هو ما يفسر أيضاً مجيءَ عضو المكتب السياسي لجهة التحرير الوطني جمال ولد عباس (83 عاماً!!) المقرب جداً من محيط الرئيس بل مِن عائلة الرئيس، والذي مباشرةً بعد تنصيبه مكان سعداني، وبعد طمأنة الجميع في قاعة نزل الأوراسي في العاصمة على صحة الرئيس بل وتحسنها باستمرار (بشهادته هو بوصفه طبيبا مختصاًّ)، أكد في خطابه على الاستمرارية وأنه سيبقى في منصبه أميناً عاماًّ للجبهة إلى غاية 2020م! وأنْ لا مانع من عهدة خامسةٍ للرئيس إذا ما شفي ورغب في الاستمرار! كما بان جلياً أن من مهامه في الأمانة العامة أن يُنسيَ الجميع "خرجات" سلفه وحماقاته، وبادر إلى القول بأن جبهةَ التحرير أبوابها مفتوحة لكل أبنائها ولعودة "الغاضبين" تحديداً، ولكن بدون شروط! والمقصود بالخطاب هم من القيادات وعلى وجه الخصوص: عبد الرحمن بلعياط (وكتلته)، عبد الكريم عبادة، عبد العزيز بلخادم (الذي أبعده من هياكل الحزب والدولة الرئيسُ نفسُه)، والعياشي دعدوعة ومَن معه. أي بدون إمكانية إعادةِ النظر في شرعية هياكل ومؤسساتِ الحزب الحالية المنبثقةِ عن دورات اللجنة المركزية والمؤتمرات السابقة (المطعون في نتائجها)، خصوصاً تلك التي جاءت بسعداني مكان بلخادم في 29/8/2013م أميناً عاماً. أي بدون الطعن في التركيبة الحالية داخل الحزب (اللجنة المركزية والمكتب السياسي تحديداً) ومن ذلك أيضاً منصب الأمانة العامة أي هو نفسه! كما طلب من الجميع ضم الصفوف داخل الجبهة والاستعدادَ لما هو منتظر في 2017م من انتخاباتٍ تشريعية وبلدية (محلية) وما بعد ذلك من استحقاقات على مستوى الرئاسة في 2019م.
وقد وردت أنباء تفيد بأن مبعوث (أو مبعوثي) الرئاسة حرصوا على إلزام سعداني بإعلان الاستقالة - التي كانت مفاجِئة للكثير في القاعة - خلال انعقاد اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني في نزل الأوراسي بالعاصمة يوم 22 تشرين الأول/أكتوبر الفائت رغم طلبه التأجيل، وذلك لإضفاء الشرعية اللازمة على تنصيب خَلَفه بأوامر من أعلى هرم السلطة، ولكي يبدو في الظاهر - كأمر واقعٍ - أنه حظي بموافقة وتزكية أعضاء اللجنة المركزية، وهي الهيئة المخولة لاختيار الأمين العام داخل الجبهة. وهو ما يعني أن جبهةَ التحرير الوطني سوف تستمر بيد الرئاسة في عملها المتمثلِ في ضبط إيقاع الساحة السياسية، أي كأداة في خداع الشعب (إلى جانب التجمع الوطني الديمقراطي والقوى الثانوية الموالية) وإضفاء الشرعية على النظام القائم كأن شيئاً لم يحدث!!
وفي الأخير يجدر أن نتساءل: أين يقف شعبُ الجزائر المسلم أمام هذه الزمر المتسلطة عليه الفاسدةِ المرتبطةِ بالاستعمار، التي تعبث به وبمصيره ومصير أبنائه؟ وأين هي - على سبيل المثال - ثرواتـُه التي صُرف منها على يد هؤلاء ما يربو على ترليون (ألف مليار) من دولارات النفط والغاز في هذه السنوات الأخيرة أي منذ مجيء بوتفليقة رئيساً فقط؟ وهو الآن بحسب القائمين على النظام في البلاد يواجه مجدداً سياسةَ التقشف نتيجة انهيار أسعار النفط، بل ويواجه مستسلماً (!!) مصيراً مجهولاً على جميع المستويات؟! وما المخرج من هذه الأنفاق المظلمة؟ الجواب يكمن حصراً في نظام الإسلام - أي نظام الخلافة - بديلاً حتمياً يمنع تدخلَ الكافر المستعمر في شئون أهل الجزائر وشئون كافة الشعوب الإسلامية، ويحقق العزةَ والنماء وكل أصناف الخير للمسلمين في دولةٍ جامعةٍ للأمة في ظل شريعة الإسلام الشامخ! ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 50].
بقلم: صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع