منذ سنة 1958م لم يعارض أي رئيس للجمهورية في لبنان، خلال حكمه، السياسة الأمريكية. بل إن معظم من كانوا في هذا المنصب أتوا بإرادة أو بموافقة أمريكية. وما حصل في لبنان بداية هذا الأسبوع ليس استثناءً. لكن الظروف السياسية التي أتى فيها انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية في لبنان اختلفت عن سابقاتها. فالوضع السياسي في منطقة الشام يعتريه الغموض ومستقبله مجهول.
منذ شهر آيار سنة 2014 ولمدة سنتين ونصف لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية حيث إن الملف اللبناني لم يكن على جدول اهتمامات أمريكا كونها تربط الموضوع اللبناني بالوضع في سوريا. فكانت تترك موضوع انتخاب الرئيس للتجاذبات العبثية بين ملوك الطوائف في لبنان. وبقي هذا التجاذب بين الأطراف في لبنان حتى أواخر شهر آب المنصرم.
ففي آخر شهر آب زار وزير الخارجية الأمريكية جون كيري السعودية وبعيد وصوله التقى بوليّ ولي العهد محمد بن سلمان ودام لقاؤهما ثلاث ساعات بحثا فيه الأوضاع في الشرق الأوسط بحسب وكالة الأنباء السعودية. وفي الأول من أيلول زار وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية توماس شانون لبنان والتقى خلال زيارته كلاً من رئيس مجلس النواب نبيه بري، وقائد الجيش، وحاكم مصرف لبنان. وكان لبنان إحدى محطات زيارة توماس شانون للمنطقة والتي تضمنت عمان ورام الله وتل أبيب حسب البيان الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية، ولاحقا قالت وكالة الأنباء رويترز إن شانون زار أيضا سلطنة عُمان حيث التقى وفداً من الحوثيين في العاصمة مسقط وانتهت زيارته للمنطقة في 14 أيلول حيث وقّع ورئيس مجلس الأمن القومي لكيان يهود يعقوب ناغيل على مذكرة تفاهم تقضي بتقديم واشنطن لكيان يهود مساعدات بقيمة 38 مليار دولار خلال 10 أعوام. وقال شانون قبيل توقيع المذكرة إن "هذه المذكرة للتفاهم تعتبر أكبر التعهدات بشأن المساعدة العسكرية لأي دولة في تاريخ الولايات المتحدة".
إن أحد مفاعيل هذه الزيارات للمنطقة كان انتخاب ميشال عون رئيسا للبنان. وفي نظرة سريعة لتفاصيل توزيع المهام الأمريكية للأطراف المعنية: أولا، تعليق جلسات الحوار والتي بدأ عقدها بشكل دوري منذ كانون الأول سنة 2015 وتعليقها كان بحجة سجال حصل داخل الجلسة على أثره لم يحدد رئيس المجلس النيابي نبيه بري موعدا جديدا لها. ثانيا، توجه سعد الحريري بزيارة خاطفة إلى السعودية في 9 أيلول قبيل عيد الأضحى. ثالثا، توجه وزير الخارجية جبران باسيل صهر ميشال عون إلى باريس حيث التقى هناك بسعد الحريري في 15 أيلول. رابعا، تأخير تسريح قائد الجيش جان قهوجي سنة كاملة من دون أن يحدث هذا القرار أي صخب سياسي مثلما حصل السنة الماضية من قبل تيار عون. وفي الآخر من أيلول تغيرت نبرة الخطاب السياسي في لبنان حيث بدأ الكلام عن صفقة سياسية بين عون والحريري تقتضي ترشيح عون رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة.
إن ذكر التسلسل التاريخي للأحداث بشكل مفصل إنما المراد منه التأكيد بأن الملف الرئاسي في لبنان لم يأت بقرار داخلي، بل تم اتخاذه من قبل أمريكا بناءً على مصالحها في المنطقة. فأمريكا وكأنها عدلت في خطتها السياسية في ما يتعلق بربط الملفين اللبناني والسوري ورأت أن تفصل بينهما بعد الصفعة التي تلقتها في معركة فك الحصار عن حلب أوائل شهر آب. والمتابع يرى بأن زيارات كيري وشانون للمنطقة طغى عليها ترتيب الملفات الأمريكية في الشرق الأوسط قبيل تسلم الإدارة الجديدة مقاليد الحكم في أول السنة القادمة.
بعيد إعلان سعد الحريري تبني ترشيح ميشال عون رئيسا للجمهورية تم تسريب كلام للسفيرة الأمريكية في لبنان تعبر فيه عن عدم ثقتها بعون. كما شكك جون كيري بنتائج مبادرة الحريري في دعم هذا الترشيح. وكل هذه التصريحات لا تعني بأن أمريكا كانت تعارض وصول عون للرئاسة بل تعني أنها تريد إخفاء دعمها لحليف حزب إيران الذي تصنفه كمنظمة إرهابية وتريد إيهام الناس بأنها لا تتدخل في شؤون لبنان. وترشيح الحريري لعون لاقى معارضة داخل كتلته النيابية وأربك عدة أطراف في لبنان وهذا سببه التحول السريع بالمواقف والتي عادةً تحتاج لتمهيد إلا أن القرار الأمريكي أتى بشكل مفاجئ للأطراف ما يؤكد أن هناك أمرا طارئا حدث خارج الإرادة الأمريكية اقتضى بموجبه تغيير الخطة. وهذا الأمر كما سبق وأسلفنا يتعلق بمجريات ثورة الشام المباركة. ولمعالجة هذا الارتباك اجتمعت السفيرة الأمريكية بجبران باسيل حيث نقلت ارتياح بلادها بانتخاب عون. كما زار وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثائر السبهان لبنان قبل أيام من انتخاب عون واجتمع مع معظم الشخصيات السياسية كإشارة بأن المملكة تدعم موقف الحريري بعكس ما أشيع سابقاً.
إن القرار الأمريكي في الإتيان بحليف حزب إيران إلى سدة الرئاسة في لبنان ينذر بما هو أسوأ للمسلمين في لبنان. فميشال عون معروف بعدائه للإسلام والمسلمين. ففي سنة 2006 وصف عون، حسب تسريبات وكيليكس، (المسلمين) السنّة بـ"الحيوانات"، وأن لا خيار سوى التعامل مع العلويين في سوريا من أجل حماية لبنان من السنّة قائلا: "لا يجب أن تقع سوريا في يد السنّة لأنهم سيتحالفون مع سنّة لبنان ويطردون المسيحيين من المنطقة" وقال أيضاً إن السنّة "غرباء" ومن دون جذور ومن جنسيات مختلفة وعشاق مال ومتطرفين. وفي سنة 2012 قال عون في زيارته لمدينة زحلة: "هناك خطر مصيري جاثم على حدودنا لا يؤمن بقيمنا، فما يحصل بسوريا بات على أبوابنا، ونحن لا نريد أن نكون قسطنطينية نختلف على جنس الملائكة فيما "محمد الفاتح" يطوّقنا، ونحن اليوم لا نقبل بأقلّ من حرية المعتقد، وأيّة جماعة تريد الوصول إلى الحكم وإفقادنا هذا الحق، سنقاومها قبل أن تصل إلينا، نقاومها بمواقفنا وبالدعم لمن يناهضها". وفي سنة 2013 اتّهم جبران باسيل الإسلام زورًا بالاعتداء على حقوق المرأة وبالتعاطي الجنسي الحيواني معها وهاجم الشريعة الإسلامية لأنها شرعت عقوبة الإعدام بقطع الرأس، وهاجم نظام الخلافة لأنه يرعى شؤون الناس بالشريعة. كل هذه التصريحات تدل على مدى الحقد الذي يكنه عون وتياره على الإسلام والمسلمين ويدل على أن اختيار أمريكا له لم يكن عبثا بل تأكيدا على الحرب التي تشنها أمريكا على الأمة الإسلامية عامةً وأهل الشام خاصةً.
ختاما، إنه من المستغرب كيف يقبل حزب إيران بالمضي في صفقة أتى بها مسؤول أمريكي للمنطقة تخللها أكبر دعم مالي للكيان الذي يصف نفسه ممانعا له. وكيف يمضي سعد الحريري بدعم شخصية أهانته شخصيا سنة 2011 حين أسقطت حكومته وقالت له حجزت لك تذكرة ذهاب فقط من لبنان من دون رجعة. وكيف لمن يدعون زعامة المسلمين في لبنان أن يولوا عليهم شخصا غير مسلم ليحكمهم والله سبحانه وتعالى يقول في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾؟
بقلم: عبد اللطيف داعوق
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع