في كتابه (مستقبل الإسلام السياسي) لجراهام فوللر الذي يعمل محللا سياسيا وشغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات الأمريكية، وعمل بين وزارة الخارجية الأمريكية والسي آي إيه (CIA) لمدة سبع وعشرين سنة، وعمل في مؤسسة راند للتخطيط الاستراتيجي متخصصا في شؤون "الشرق الأوسط"، ثم بروفيسورا في التاريخ في جامعة (سيمون فريزر)، يضع فوللر خلاصة خبرته العريقة في جملة خطيرة يقول فيها: "لا شيء يمكن أن يُظهر الإسلاميين بأسوأ صورة أكثر من تجربة فاشلة في الحكم".
وفي مقال لدانيال بايمان الباحث في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط نشر في مجلة ناشيونال إنتريست الأمريكية يقول فيه "إن الهدف الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية ليس هو حب المسلمين لها، وإنما هو كرههم لعدوها. وهو أمر لا يتطلب بيع أمريكا كصديق للعالم المسلم، وإنما يتطلب ما هو أسهل من ذلك بكثير... إنه يتطلب الإشارة إلى السجلات السوداء للإسلاميين سواء في داخل السلطة أو خارجها".
ما سبق هو إشارة متواضعة للكم الهائل من الأبحاث والدراسات والتوصيات التي كانت ترفع للإدارة الأمريكية في سياق حربها ومواجهتها للإسلام، فأمريكا والغرب كله على قناعة راسخة أن البديل لحضارتهم الفاسدة قادم لا محالة، بعد أن فرضوا على الأمة أنظمة وحكاما صنعوا على أعينهم وتحت بصرهم، فأبعدوا الأمة برهة من الزمن عن الممارسة الحقيقية للحكم والعيش الطبيعي في ظل مبدئها وعقيدتها، وربط النظام القائم ربطا محكما بنظام عالمي حتى أصبح جزءًا منه لا يستطيع الفكاك منه بشكله الحالي، فكل من سيأتي للحكم وبغض النظر عن مرتكزاته الفكرية ضمن هذه المنظومة العالمية سيصبح جزءًا من هذه المنظومة، تنتهي صلاحيته أو يحكم عليه بالفشل والطرد أو القتل بمجرد انتهاء المصلحة من وجوده على كرسي الحكم، ومرسي مصر والنهضة في تونس شاهدان على ذلك، وقبلهم مبارك وزين العابدين وشاه إيران، فكلهم لا فرق بينهم كانوا من المنظومة العلمانية نفسها التي تفصل الدين عن الحياة وتطبق القوانين والدساتير الوضعية.
والتضليل هنا بإلصاق أي شكل من أشكال الحكم هذه ضمن هذه المنظومة بالإسلام، فثورة الخميني لا علاقة لها بالإسلام ولم يكن الباعث لها تطبيق الإسلام وإن عرفت على مستوى العالم أجمع بالثورة الإسلامية فهي في حقيقتها ثورة تغيير ولاءات من بريطانيا لأمريكا، والحكم في السودان منذ عام 1989 منذ مجيء ما سمي بالحركة الإسلامية لا علاقة له بالإسلام وبتطبيق الإسلام وهكذا.. حتى بعد ما سمي بثورات الربيع العربي ومجيء "الإسلاميين" للحكم في تونس وفي مصر وفي المغرب، فقد وصلت حركات تسمى بالإسلامية للحكم لكنها بقيت ضمن المنظومة السابقة نفسها؛ ضمن نفس القوانين والدستور والمؤسسات وإن اختلفت الشخوص والوجوه؛ ضمن نفس العلاقات الدولية السابقة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية السابقة ولولا قبولها وتعهدها بالحفاظ على هذه الاتفاقيات والعهود لما وصلت للحكم من الأصل.
وحتى يحكم على فشل الإسلام السياسي، يجب البحث والنظر في حقيقة وصول الإسلام للحكم كنظام شامل لكل مناحي الحياة؛ السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من جوانب الحياة المختلفة، فإذا طبق الإسلام ولم يطبق غيره أو يختلط بغيره وفشل في حل مشاكل الحياة المختلفة، أو فشل في إقناع الناس بصحة الحلول المستنبطة من أحكامه وصحة مطابقتها للواقع بعد اجتهاد بشري صحيح منضبط بأصوله، يكون فشله واقعا ملموساً، وهذا لم يحدث أبداً، بل التاريخ يشهد بعكس ذلك تماماً؛ فعندما طبق الإسلام سعدت البشرية كلها حتى البهائم والطيور كان لها نصيب من عدل الإسلام وعدل خلفائه.
أما الذي حصل حديثا من وصول حركات وجماعات تسمى بالإسلامية، سُلمت الحكم في بعض البلاد ضمن خطة غربية لضرب الإسلام وتشويه صورته عند أهله وفي العالم أجمع، وإظهار الإسلام بمظهر النظام المتخلف الذي لا يصلح للبشرية في عصر الحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي، حتى إذا فشلت هذه النماذج الساذجة في السياسة وفي الحكم، اتخذت ذريعة للإساءة للإسلام وتشويهه وضرب المشروع الإسلامي وخداع الأمة وتضليلها لتقبل بالواقع وتنفضّ عن أصحاب المشروع الحقيقي لإعادة الإسلام واقعا معاشا ومطبقا في جميع مناحي الحياة، وهو أيضا نوع من الترويض للأمة لتقبل بهم بل ولتطالب بعودتهم حتى يأخذوا فرصتهم كما غيرهم، فتصبح قضية الأمة إعادة أشخاص للحكم بعينهم وليست المطالبة والعمل لإعادة الإسلام لواقع الحياة.
إن الإسلام دين الحق الذي ارتضاه رب البشرية للبشرية جمعاء، في تطبيقه سعادة البشرية وفي غيابه وإقصائه تعاسة ما بعدها تعاسة وظلم ما بعده ظلم، وحتى يعود الإسلام بعدله ونوره لا بد له من دولة تطبقه وتحمله دعوة للبشرية في أصقاع الأرض، وهذا يحتاج لنوعية معينة من الرجال تشبه بل يجب أن تكون في مستوى فهم وتضحية صحابة رسول الله e في صدر الإسلام الذين حملوا هذا الدين وطبقوه كما أنزل على رسول الله e، مرجعيتهم أحكام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وسنة رسول الله e.
وقوة الدولة وعظمتها إنما هي بعظمة رجالها وبقوة الفكرة التي يحملونها، فكلما تملكت الفكرة وتغلغلت وقوي التمسك بها، وكانت واضحة نقية لا يخالطها شيء من غيرها مهما كان أصله، مع الوعي السياسي والإحاطة بالأحداث والوقائع الجارية في محيط الدولة أولاً، وفي العالم أجمع بعد ذلك، ووجود قوة حقيقية ذاتية للدولة لا تعتمد على غيرها في الحصول عليها حتى لا يرتهن قرارها السياسي للخارج كما هو حاصل الآن في بلاد المسلمين كلها بلا استثناء. بهذا وبهذا فقط تصبح هذه الدولة وبهذه الصفات الدولة الأولى في العالم أجمع، تفرض هيبتها ويخشاها عدوها ويرضى عنها رب السماوات والأرض.
رأيك في الموضوع