يعقد مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن في مثل هذا الوقت من كل عام في مدينة ميونيخ في ألمانيا، في أجواء توصف بالهادئة مع توفير كل ما يلزم لنجاح المؤتمر الذي تعقد جلساته العلنية والسرية في فندق فخم يقع في وسط مدينة ميونيخ ويكون محاطا عادة بأعداد هائلة من قوات الأمن وصل عددهم قرابة الأربعة آلاف هذا العام وسط إجراءات أمنية مشددة في محيط الفندق.
وبالرغم من تقديم المؤتمر وتعريفه على أنه هيئة مستقلة! إلا أن الشركة المنظمة للمؤتمر واسمها "مؤسسة مؤتمر ميونيخ للأمن" تستفيد من تمويلات حكومية كبيرة، ويحظى المؤتمر أيضا برعاية من شركات ألمانية ودولية كبرى، ويعد منصة فريدة في العالم للنخب الدولية في السياسات الأمنية، ولا يوجد مكان آخر في العالم يجمع هذا العدد من ممثلي الحكومات وخبراء الأمن. وفي تصنيفها الجديد وضعت جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية المؤتمر للمرة الرابعة على التوالي في مرتبة أهم مؤتمر في العالم.
والمؤتمر الذي انعقد بين 17-19 شباط 2017 هو الثالث والخمسون منذ تأسيسه في بداية ستينات القرن الماضي على يد إيوولد هاينريش فون كلايست سكيمنزين، الذي اقترح تنظيم لقاء يضم القادة في العالم الغربي كوسيلة لمنع نشوب حرب عالمية أخرى، وبعد انتهاء ما سمي بالحرب الباردة اتسعت قائمة الحضور لتضم ممثلين عن معظم دول العالم، وقد حضر هذا العام قرابة خمسمائة شخص منهم 16 من رؤساء الدول، و15 من قادة الحكومات، 47 وزير خارجية، و30 وزير دفاع، و59 من ممثلي المنظمات الدولية، بينهم الأمين العام للأمم المتحدة، وهذا الحجم من المشاركة التي فاقت بشكل لافت المؤتمرات السابقة يدل على عظم الهاجس والبعد الأمني العالمي الذي بات يهدد معظم الدول.
وقد تم إطلاق تقرير المؤتمر الذي أعدته مجموعة من مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية المؤثرة بموازاة الإعلان عن افتتاح جلسات المؤتمر حيث حذر التقرير من انهيار وأفول قوة أوروبا والولايات المتحدة تأثرا بظهور أنظمة معادية للديمقراطية، وحملات المعلومات الزائفة، وانتشار التيارات اليمينية الشعبوية الساعية إلى استغلال مخاوف الشعوب الغربية من العولمة والهجرة لتحقيق مكاسب سياسية وتقويض النظام الدولي.وحمل التقرير الواقع في تسعين صفحة عنوان "ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام".
وتضمن التقرير تحليلات وإحصائيات وخرائط ودراسات حول أزمات النظام الدولي الراهن، والديمقراطيات الغربية، والأوضاع الهشة للاتحاد الأوروبي، وتهديدات المجموعات الجهادية، والتلاعب السياسي بالمعلومات والإعلام، والتطورات ببحر الصين الشرقي وفي الشرق الأوسط، وفراغ النفوذ الدولي الناشئ عن انسحاب الولايات المتحدة من البنية الأمنية العالمية، وهذه الموضوعات كانت مرشحة لتصدر أجندة مؤتمر ميونيخ. وقال مدير مؤتمر ميونيخ فولفغانغ إيشينغر إن اضطراب وهشاشة الأمن الدولي بشكل غير مسبوق - على غرار ما كان سائدا عند نهاية الحرب العالمية الثانية - يضعان العالم بالخطوة السابقة لانهيار النظام الديمقراطي في أوروبا والولايات المتحدة.
وتحدث إيشينغر عن سبب آخر للمخاوف الواردة بتقرير "ما بعد الغرب"، ويتعلق بارتباط صعود أعداء البلاد المنفتحة بالغرب والتأييد الواسع خلال العام المنصرم لإغلاق الحدود والتعصب القومي بالاتحاد الأوروبي، مع فقدان شرائح واسعة من الأوروبيين إيمانهم بالنموذج الديمقراطي وقيمه الأساسية.
وهذا العام شهد المؤتمر توترا واضحا بين الدول الأوروبية (الاتحاد الأوروبي) من جهة وأمريكا من جهة أخرى بالرغم من محاولات نائب الرئيس الأمريكي في المؤتمر، ووزيري الدفاع والخارجية في جولة سبقت المؤتمر بأسبوع لطمأنة أوروبا فقد قال نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، في خطاب السبت (18 شباط/فبراير 2017) أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ إن "الرئيس ترامب طلب مني أن أكون هنا اليوم لنقل هذه الرسالة التي تفيد أن الولايات المتحدة تدعم بقوة الحلف الأطلسي وأننا ثابتون في التزامنا حياله". وأكد بنس الذي يتحدث للمرة الأولى أمام النخبة السياسية والعسكرية العالمية، مراراً في خطاب استغرق 20 دقيقة، كرر فيه 19 مرة أنه يتكلم باسم الرئيس الأمريكي "سوف نكون دائماً أكبر حليف لكم" مشيراً إلى القيم المشتركة مثل "الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون" التي تربط بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين.
لكن بنس جدد بقوة مطالب الولايات المتحدة بالتزام مالي أكبر من جانب الشركاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقال في هذا السياق "يستدعي الدفاع الأوروبي التزامنا بقدر التزامكم (...) وعود المشاركة في الأعباء لم يتم الإيفاء بها منذ فترة طويلة جداً". وأضاف "يتوقع الرئيس ترامب من حلفائه الالتزام بكلامهم. حان الوقت لبذل المزيد من الجهود" من حيث الإنفاق العسكري. كما دعا بنس إلى الحزم حيال روسيا بعدما أثار ترامب قلق شركائه بتعبيره عن الأمل في تقارب مع موسكو.
لكن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرولت عبر عن أسفه في تغريدة على تويتر لأن نائب الرئيس الأمريكي "لم يقل كلمة واحدة عن الاتحاد الأوروبي"، وهي قضية كانت متوقعة لأن ترامب أشاد بخروج بريطانيا من التكتل وبدا أنه يأمل في تفكك الاتحاد.
غير أن دبلوماسيين وساسة ومحللين أوروبيين تجمعوا خلال مؤتمر ميونيخ قالوا إنه إذا كانت زيارات كبار المسؤولين في إدارة ترامب تهدف إلى طمأنة أوروبا بكون أسس السياسة الخارجية الأمريكية ما زالت كما هي، فإن هذه الزيارات لم تحقق الهدف المنشود.
من جانب آخر دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف السبت (18 شباط/فبراير 2017) إلى قيام نظام عالمي جديد لا تهيمن عليه الدول الغربية، مقترحا في الوقت ذاته إقامة علاقة "براغماتية" مع الولايات المتحدة. وأوضح خلال مؤتمر الأمن في ميونيخ بألمانيا أنه "على القادة (في العالم) أن يحددوا خيارهم". وأضاف: "آمل أن يكون هذا الخيار هو نظاماً عالمياً ديمقراطياً وعادلاً. وإذا أردتم أطلقوا عليه (نظام) ما بعد الغرب".
عندما تكشف الرأسمالية ممثلة بالدولة الأولى على المسرح الدولي عن وجهها الحقيقي، ويصرح ربانها بكل ما يعتمل في صدره وقلبه من جشع مادي وعنصري، لدرجة يخيف فيها حلفاءه وأقرانه من أن يحذوَ حذوه آخرون، وهم الذين حاولوا طوال عقود تجميلها وتزيينها (ديمقراطية / ليبرالية / علمانية) لتسويقها على البشرية وأنها نهاية التاريخ البشري، حينها تكون بشائر سقوط وانهيار المبدأ الرأسمالي حتى عند أهله واقعا حقيقيا، وتمهد الطريق وتزيد من أملنا بقرب استجابة وعد ربنا بالاستخلاف والتمكين وما ذلك على الله بعزيز.
رأيك في الموضوع