ومن تناقضات أوباما التي كشفتها المقابلة قوله إنه يريد من الدول الأخرى أن تتحمل قسطها في الحفاظ على النظام العالمي، وليس أن تنتظر أمريكا لتقود كل شيء. فجوابه هذا لا يفسر معارضته لإقامة منطقة آمنة لحماية ضحايا الإجرام الأسدي، ولا يفسر منعه تركيا من التدخل في سوريا، بينما هو يسمح، أو يطنش عن التدخل الفاضح لإيران لصالح عميله بشار!!
في تفاصيل آلية اتخاذ القرار المصيري في ملحمة الكيماوي نطلع على تفكير عدد من النافذين في أروقة الحكم الأمريكي ومنهم مستشارو أوباما في مجلس الأمن القومي ونائبه جو بايدن وسامانثا باور وسوزان رايس وبن رودس وماكدونو إلخ... أوباما، الذي يدرك جيدا أهمية النظام السوري العميل المخلص للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الذي وصل إلى حد المشاركة في حرب جورج بوش على العراق في حرب الخليج الثانية (1991)، أدرك خطورة الإقدام على ضرب مواقع لبشار مهما كانت رمزية أو محدودة: فالهجوم الصاروخي، لو وقع، لن يؤدي إلى أكثر من تدمير بعض المباني والمنشآت عديمة القيمة، ولكن خطورته تكمن في أنه يضع الرئيس المخادع في موقف مواجهة نظام بشار، أي أن الضربة كانت ستفرض على أوباما المضي في تحجيم بشار وكبح سياسته الإجرامية في حرق البلد وقتل الناس دون وازع ولا رادع. وأوباما، الذي أجرى حساباته بعقل بارد متخذا من المصلحة الأمريكية مقياسًا وحيدًا، وجد أن نصيحة مستشاره دنيس ماكدونو في مكانها خلال الحديث الذي استغرق ساعة بينهما في حديقة البيت الأبيض، كما روت صحيفة نيويورك تايمز من قبل، بخلاف ما نقله غولدبرغ من أن أوباما هو الذي تراجع عن قرار الهجوم ولكنه التمس تأييدا وسندا من ماكدونو. فتأييد ماكدونو لقرار التراجع عن الضربة لا يحتاج إلى ساعة من المباحثات في الحديقة، كما أن جون كيري، الذي بلغ بالقرار لاحقا ولم يستشره أوباما فيه، لم يجد أمامه غير بلع لسانه والحفاظ على منصبه بالاستمرار بالدفاع عن الرئيس المخادع، أما وزير الدفاع تشاك هيغل الذي لم يحتمل الصفعة أو لم يفهم حساباتها الاستراتيجية فقد آثر الانسحاب من فريق الحكم ولكن بشكل مؤدب حتى لا يحرج الرئيس المخادع وإن كان لاحقا (وخاصة في أول 2016) عبر عن خيبة أمله ومعارضته للقرار. المتتبع لهذه التفاصيل يجد أن نصيحة جو بايدن لأوباما كانت في مكانها: لا ترسم خطوطا حمراء حتى لا تضطر لتنفيذها، وهذا يكشف عن غباء الرئيس المخادع أو عدم حنكته الاستراتيجية.
المستغرب في تفاصيل هذه المقابلة المطولة إصرار أوباما المتكرر على التقليل من الخطر الذي يشكله تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق والشام على الأمن القومي الأمريكي، فقد ثارت ثائرته أمام سيل أسئلة الإعلاميين عن عدم جديته في القضاء على التنظيم، فكرر مرارا أن خطر التغير المناخي يشكل تهديدا جديا للعالم، أما خطر تنظيم الدولة فليس بأكثر من زوبعة في فنجان. ولكنه استفاد من قيام التنظيم بإعدام ثلاثة من الأمريكان ليزعم أن القضاء على التنظيم له الأولوية المسبقة على مواجهة نظام بشار، وما هذا إلا شماعة تبرر له عدم الضغط على نظام عميله بشار.
في القضايا الأخرى تكشف المقابلة عن تخبط صناع السياسة الأمريكية في كيفية مواجهة "الربيع العربي" الانتفاضات الشعبية التي انطلقت لتهز عروش الأنظمة الدكتاتورية التي خدمت أمريكا بإخلاص عبر عقود من الزمن. فالمقابلة المستفيضة حاولت أن تخفي الوجه القبيح للرئيس المخادع: فلم يواجهه الصحفي في موقفه تجاه الانقلاب العسكري على حكم محمد مرسي في مصر، مرسي الذي وصل إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية وتعهد بالمحافظة على النهج الديمقراطي العلماني في الحكم، بما في ذلك معاهدة كامب ديفيد والحفاظ على سفارة يهود في قلب القاهرة، ومتابعة النهج الرأسمالي في الاقتصاد بما في ذلك الاقتراض من البنك الدولي وبالشروط الربوية، ومع ذلك فكل هذا لم يشفع له، وأصر أوباما على خلعه عبر عميله السيسي. ولكن غولدبرغ اختار عدم مواجهة الرئيس المخادع بأي من هذه الأمور.
هنا أيضا نلمس كيف أن الصحفي تجنب إحراج الرئيس المخادع، وهذا يجعل من غولدبرغ شريكا في التستر على جرائم أوباما، ولكن لا عجب فهذا هو دور الإعلام المأجور والذي هو جزء من الجهاز السياسي والحربي في تنفيذ السياسة الأمريكية الخارجية، كما سبق للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي أن فصّل في كتابه "صياغة الرأي العام" الدور المركزي للإعلام الأمريكي بالترويج لجرائم سياسات البيت الأبيض.
أما عن تركيا: فقد نقل غولدبرغ انتقاد أوباما للرئيس التركي أردوغان الذي كان يرى فيه أملا لردم الهوة بين المسلمين والغرب، ولكن أردوغان، كما ينقل غولدبرغ عن أوباما، تحول إلى حاكم مستبد وفشل في تحقيق ما كان أوباما يأمله. هذه الملاحظة جاءت عابرة في سياق شرح "إحباط" أوباما من مشاكل الشرق الأوسط المعقدة، وفي سياق تبرير سياسته في ملحمة الكيماوي في سوريا. ولتخفيف وقع التهجم على أردوغان صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي مارك سترو بأن باراك أوباما، "يولي أهمية كبيرة لوجهات نظر حلفائنا الأتراك، بسبب الدور المهم الذي تقوم به تركيا، كجسر بين أوروبا والشرق الأوسط والعالم الإسلامي". وقد انتقد الناطق باسم الرئاسة التركية "إبراهيم كالن" تصريحات السفيرين الأمريكيين السابقين لدى بلاده، "مورتون أبراموفيتش" و"إريك إيدلمان" والتي طالبا فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالاستقالة. ورد كالن بأن "زمن التعليمات التي كانت تمليها الولايات المتحدة الأمريكية على بلاده قد ولى"... فهل تأتي هذه المواقف بالتزامن مع التفجيرات المتكررة في قلب اسطنبول وأنقرة لتشير إلى صفحة جديدة في تركيا؟
أما السعودية فقد تلقت النصيب الأوفر من الهجوم الأوبامي الذي أبدى غضبه من المد السلفي الوهابي في إندونيسيا نتيجة دعم النظام السعودي للمنظمات والجمعيات السلفية ما أدى إلى انتشار نموذج الإسلام "العربي" في إندونيسيا. كما دعا أوباما السعودية إلى القبول بمشاركة النفوذ في المنطقة بالتفاهم مع النظام الإيراني. وحذر من أن عدم التفاهم السعودي الإيراني سيزج المنطقة في دوامة الصراعات الساخنة، التي ترتكز على العصبية الطائفية وما أسماه "بالنزعة القبلية" والتي يرى فيها قوة هدامة.
أيضا حملت المقابلة عددا من الأقوال التي ركز فيها أوباما على الحاجة الماسة إلى محاربة "الشريحة الضيقة" من الإسلام المتطرف الذي يصر على رفض الحضارة الغربية وبالتالي يعمل لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
هنا: أي في ربط التغير الأمريكي من ديمقراطية الإخوان بقيادة محمد مرسي في مصر، مع تهجم أوباما على نموذج أردوغان واعتباره تجربة فاشلة، مع دعوته لمواجهة الإسلام المتطرف، نصل إلى لب النظرة الأوبامية لكيفية التعامل مع العالم الإسلامي: اعتماد سياسة العسكر والأجهزة القمعية البوليسية دون أدنى اعتبار لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية أو روحية: أي اعتماد السياسة الميكيافيلية بأبشع صورها، وهنا يكمن سقوط "مبدأ أوباما" ولن تنفعه الألفاظ المنمقة التي يزعم فيها أن أمريكا تؤمن بالقيم العالمية التي تشمل حق التعبير والتجمع السلمي وحرية الرأي، فهذا كذب محض، وما قدم من أعذار واهية لن تبرئه من سياسته الإجرامية في سوريا، بل إن الدماء الزكية التي سالت على أرض الشام تلعنه إلى أبد الآبدين، وسيأتي يوم يحاسب فيه على ما اقترفته يداه، هو وعصابته من الأدوات الذين نفذوا سياسته بـ"حسن نية" أو غير ذلك.
طبعا أوباما ليس أول رئيس أمريكي يتبع هذه السياسة، بل هي سياسة أصيلة في دوائر الحكم في أمريكا، وفي العالم الغربي كله. ولكن السحر انقلب على الساحر، فقوة البطش المادية العارية لا يمكن لها أن تطول، موازين القوى في العالم حبلى بالتغيرات، وكما أن الشمس الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا أفلت من قبل، كما سقطت امبراطوريات الفرس والروم وغيرهم، فإن الإمبراطورية الأمريكية ستنهار حتما، وأول ذلك الانهيار هو أن عورتها انكشفت وسقطت في وضح النهار.
رأيك في الموضوع