مع بداية الانتفاضات الشعبية والثورات التي اجتاحت البلادَ العربية في هذه الآونة، بدت الجزائر كأنها تجاوزت خطرَ ثوراتِ الشعوب من أجل التغيير، على الأقل من منظور الرسميين، إلا أن النظام بات متخوفاً كغيره من الأنظمة في البلاد العربية خاصة، ويتوجس ويترقب الأسوأ بالنسبة له في كل حين، ما جعله (منذ فترة) يحاول استباقَ الوضع بمباشرة إصلاحاتٍ وتغييرات شكليةٍ عبر استشارات سياسية مسرحية مع مَنْ يختارهم هو مِن الشخصيات، ويسعى لتقديم تسهيلاتٍ مادية مغرية (رشوةً) للشباب في شكل قروض ووظائف وسكنات وغيرها، لعلها تمتص شيئا من غضبِ الشارع، كما باشر النظام إعادةَ تشغيل بعض المؤسسات العمومية المملوكة والتابعة للدولة، وبعث الحياة فيها (ذراً للرماد في العيون) في محاولة لتخفيف البطالة، وشراء السلم الأهلي.
وفي هذا السياق أيضاً يندرج ما سمي "إصلاحات بوتفليقة" ومنها التعديلات الدستورية التي يعتزم النظام في قابل الأيام تمريرَها عبر البرلمان (بغرفتيه)، وكل ما تقوم به السلطة هذه الأيام من إعادة هيكلة وتغييراتٍ في أجهزة الأمن والمخابرات والاستعلامات، ومنه اعتقال أو إسكات أو إبعاد بعض رموز المؤسسة العسكرية من الجنرالات من أمثال محمد مدين (المدعو "توفيق") و"حسان" وحتى "بن حديد" (الذي كان قائد ناحية عسكرية في غرب البلاد ولم يكن في جهاز المخابرات)، للإيحاء بأن الجزائر تستعد لتكتسي حلة جديدة (وهو وَهْمُ تمدين الحياة السياسية)!! كما يتوقع أيضاً إبعاد "عثمان طرطاق" (المدعو بشير) المدير الحالي لمديرية المصالح الأمنية (وهو الاسم الجديد لدائرة الاستعلاموالأمن بعدما سُلخت عنها بعضُ مصالحها (أو حلت) وفصلت عن وزارة الدفاع وقيادة الأركان وألحقت مؤخراً بالرئاسة،ولم يبق من الأجهزة الأمنية التابعة لقيادة الأركان سوى مديرية أمن الجيش). وهو الرجل الذي ما جيء به إلا مرحلياً لترتيب "الانتقال"، علماً أنه كان يمثل الذراع الأيمن لرئيس جهاز الاستعلام والأمن السابق "توفيق"، خصوصاً فيما سمي الحرب على الإرهاب في فترة العمل المسلح (1992-1999م). كما أنه سيتم - استكمالاً للمشهد - الإبعادُ عن الواجهة السياسية لكل العسكريين الذين تلطخت أيديهم بدماء أهل الجزائر خلال ما سمي العشرية السوداء. يذكر أن النظام الجزائري دأب على تغيير اسم الجهاز المذكور وفق مقتضيات المرحلة وطبيعة الصراع منذ عقود.
إلا أنه في الجزائر التي يقوم نظامُها على الظلم والقهر والعنف والقسوة (وهي سمة المستعمِر عندما كان يحكم البلدَ بشكل مباشر)، ونظراً للوضع المتأزم على جميع الأصعدة في الداخل بشكل غيرِ مسبوق، أي نظراً لحالة الاحتقان السياسي-الاقتصادي-الاجتماعي التي باتت اليومَ تُـنذر بالكارثة، ومع هبوط سعر النفط بشكل دراماتيكي غير محسوب، علماً أن واردات الجزائر من العملة الأجنبية هي من النفط والغاز بنسبة 97%، بينما يستورد البلد أكثر من70% من احتياجاته من الخارج، ونظراً للأوضاعِ الأمنية الخطيرة على الحدود (مع ليبيا وتونس ومالي..) بحكم شساعة البلاد جغرافيا وبشرياً، ونظراً للضغائن الموجودة أصلاً نتيجة "المصالحة الوطنية" المغشوشة بعد الأحداث الأليمة (1992-1999م)، ووجود الجماعات المسلحة مع الخبرة القتالية التي تعززت لديها خلال العقدين الماضيين، ونتيجةً لما جرى في دول الجوار من تجارب ما زالت تعيشها تلك البلدانُ (الثورات العربية ونتائجها السلبية المزرية في بعضها...)، وما زرعه النظامُ المتخصص في الإفساد من فُرقة في أوساط الشعب على أساس الجهوية و"العروشية" (القبلية) والفئوية، والتناحر على المال و"البزنسة" المرتبطة بالاستيراد واستغلال النفوذ السياسي-العسكري والريع والسطو على الملكية العامة ونهب المال العام، خاصة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وبالأخص منذ عودة بوتفليقة وزمرته وزبانيته إلى واجهة الحكم والرئاسة سنة 1999م.
نظراً لكل ذلك... فإن الأعداء باتوا يخشون بالفعل من مآلات التحولِ الذي لا بد ولا مناص منه، لأن رموزَ النظام الذين ضمِنوا للكفار الأوروبيين في هذه البلاد أكثر من خمسين عاماً من التبعية بعد "الاستقلال" باتوا فعلاً من فئة الديناصورات الذين انتفخت بطونهم (من السحت) وحُفرت قبورهم. لذا ولضمان ألا تخرج الأمور عن السيطرة، هم الآن في سباق مع الزمن لاحتواء الوضع وتدارك الأمر. ومعنى خروجها عن السيطرة هنا هو دخول أمريكا على الخط في عملية صنع مستقبل هذا البلد الممسوك أوروبياً، وليس معناه شيئاً آخر، كون الشعب في الجزائر لا يمتلك وعياً سياسياً كبيراً على مصيره ومصير أمته التي ينتمي إليها (وهو جزء منها)، وهو لا يزال بعيداً كل البعد عن أن يملك زمامَ أمره أو أن يأخذَ مصيرَه بيده، وذلك بقبوله إبعادَ دينه عن السياسة. والدليل على ذلك أيضاً أن جميعَ فئاته ونخبه وعائلاته السياسية - مع أن كل أفرادها من المسلمين (!) - لا تقوى في مطالبها على الخروج من عباءة وسقف الدولة العلمانية الوطنية الضيقة التي تُقزِّم الإسلامَ وتُخرجه من ساحة الصراع مع الأعداء الحقيقيين، علماً أن هذا الإسلام العظيم هو مصدر القوة وسلاحُ الأمة الإسلامية الوحيد وبالتالي هو أيضاً السلاح الأوحد بيد هذا الشعب: وهل يقوى على المجابهة مَنْ يدخل المعركةَ من دون سلاح؟؟
ومن أجل إدراك حقيقة ما يحدث في الجزائر اليوم، كان لا بد من الرجوع إلى الوراء قليلاً:
شكلُ السلطة في الجزائر كانت قد بدأت تظهر ملامحُه منذ اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في كانون الأول (ديسمبر) 1959م فيما عُرف بمؤتمر طرابلس الغرب في ليبيا، بتأثير وتدبير أجنبي واضح من الإنجليز، وكان من أهم ما تمخض عن المؤتمر إنشاء هيئة أركان عامة للقوات المسلحة أُسندت للعقيد هواري بومدين. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر أعمال هذا الأخير واستراتيجيته لأخذ السلطة، ومنها إعداده وتنظيمه الجيد لما كان عُرف حينها بجيش الحدود (مع تونس والمغرب) لإنهاك فرنسا عسكرياً واقتصادياً من جهة، ولكن من جهة أخرى لجعله قوة عسكريةً وسياسيةً في ذات الوقت يكون بوسعه الاعتمادُ عليها (إلى جانب القوى الموالية له في الداخل) في اللحظة الحاسمة أي عندما تتهيأ ظروف أخذ الحكم، وليكون كذلك سنداً بعد الاستقلال كلما لزم الأمر، للمحافظة على النفوذ والبقاء في السلطة، وهذا ما كان.
لذا فإنه يجب ألا يغيب عن الأذهان - عند محاولة فهم ما يجري اليومَ في الجزائر - ما كان يمثله الراحل هواري بومدين ومؤيدوه في جيش التحرير وجبهة التحرير الوطنيين، وهو الرجل القوي في الجيش من أيام الثورة، حيث كانت تدعمه يومها وزمرتَه في الخفاء جهاتٌ أجنبية عبر الحدود مع المغرب (الإنجليز)، خصوصاً في الانقلاب الذي كانوا قد خططوا له ودبروه (بعد "الاستقلال") لسلفه أحمد بن بلا صديق عبد الناصر في العمالة والتبعية للأمريكان. كان الراحل بن بلا مرتبطاً بعبد الناصر وبالتالي بأمريكا، وكان كأول رئيس للجمهورية الجزائرية "المستقلة" يريد أن يتجه بالجزائر نحو النظام الناصري. إلا أن نفوذ الإنجليز استحكم في الجزائر منذ الانقلاب عندما قرَّر بومدين وجماعتُه (ومنهم الرئيس الحالي بوتفليقة) أن الفرصة قد صارت مواتيةً وأن بن بلا قد انتهى دورُه. وهذا ما كان فيما عُرف بانقلاب 19 حزيران (جوان) 1965م، عندما قام العقيد هواري بومدين بمساعدة محمد خيضر وبعض رفاقه الآخرين ومؤيديه، منهم على الخصوص الطاهر الزبيري، وبدعم من ملك المغرب الحسن الثاني، قام بانقلابه المعروف على بن بلا ووضعه في السجن ثم حبسه في إقامة جبرية (إلى غاية تشرين الأول/أكتوبر 1980م).
سيطر العقيد بومدين يومَها على كافة أجهزة الدولة باسمِ ومن خلالِ مجلس الثورة الذي أنشأه وضمَّنه رجالاتِه وصار فعلياً هو من يحكم البلاد (رئيساً للجمهورية ورئيساً لمجلس الثورة وقائداً للجيش الشعبي الوطني ووزيراً للدفاع!!). كما سيطر باسم الشرعية الثورية على جبهة التحرير من خلال جهاز الحزب، الذي كان يختار أعضاءه من "المناضلين المخلصين" سواء العسكريين أو المدنيين، أي من الموالين من أمثال قايد أحمد ومساعديه وغيرهما إلى غاية وفاته في 1978م.
وقد كان أيضاً من ألاعيب الإنجليز أن استخدم بومدين (وهو أبرز قادة "مجموعة وجدة" التاريخية المرتبطة بالإنجليز والمدعومة من قِبلهم مادياً وعسكرياً وأمنياً وسياسياً في الخفاء) استخدم في اللحظة المناسبة (في أواخر أيام الثورة) دعمَ وتأييد القيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني المتمَثلة تحديداً في أحمد بن بلا ومحمد خيضر على وجه الخصوص، ليمنحا قيادةَ الأركان بُعداً سياسياً ضرورياً في لحظة "استقلال" الجزائر، وهو الأمر الذي جعل أحمد بن بلا الانتهازي الطامع والطامح هو الآخر إلى السلطة والرئاسة، والذي كان يبحث عن الدعم في الداخل من قِبَل العسكريين لتحقيق مبتغاه، يبدو في الظاهر سياسياً كأنه هو الرئيس الفعلي لما عُرف حينها بمجموعة وجدة، وليس الأمر كذلك حقيقةً. وذلك عندما قَبِل عرضَ بومدين المتمثل في التحالف معه على أن يُتوج رئيساً للجزائر "المستقلة"! وكان هذا مناورةً من عملاء الإنجليز وفخاً مميتاً أفضى به فيما بعدُ إلى نهايته سياسياً وإبعاد مؤيديه نهائياً! كما استخدمهما بومدين (بن بلا وخيضر) أيضاً لكسب الدعم السياسي المطلوب دولياً، وليستفيد منهما (أيضاً سياسياً) في النزاع المفتعل من جانبه بين هيئة الأركان العامة (التي يرأسها) والحكومة الجزائرية المؤقتة حول المفاوضات بين هذه الأخيرة والسلطة الاستعمارية الفرنسية، بغرض شرعنة الانقلاب على هذه الحكومة، التي كانت تتأهب لاستلام حكم الجزائر بعد خروج القوات الاستعمارية في 1962م.
يتبع إن شاء الله
رأيك في الموضوع