كانت المستشارة الألمانية ميركل قد عبرت عن صلف الرأسمالية البشعة إزاء أزمة الديون اليونانية حين قالت إن على دول المجموعة الأوروبية أن تسلم سيادتها القومية لبروكسل فيما يتعلق بسياستها الاقتصادية وميزانيتها وسياسة العمل والضرائب. وأصرت ألمانيا تحديدا على إجراء عمليات خصخصة شاملة في اليونان تشمل قطاعات الطاقة والماء في سالونيك وأثينا، وقطاع المواصلات ممثلا بمطار أثينا والمطارات الداخلية والقطارات، وقطاع البريد والصناعات العسكرية. والتي من شأنها أن تزيد اليونان فقرا وتحيل حياة أكثر من ثلث السكان إلى فقر مدقع. وأمام هذا التحدي العارم أجرت اليونان انتخابات أدت إلى إعادة تسيبراس للحكم على رأس حكومة أغلبها يسارية. ويطمع الشعب في اليونان أن تعمل حكومة تسيبراس على تخفيف حدة إجراءات التقشف والخضوع لشروط بنك أوروبا وصندوق النقد.
والواقع أن الخلاص من براثن الدين الربوي أشبه بالخلاص من سرطان الدماغ، ما أن تستأصل خلايا السرطان حتى يموت المريض. فحكومة ألمانيا ممثلة بوزير ماليتها ولفقانق شوبل أكد أن على الحكومة الجديدة أن تلتزم بخطة الإنقاذ التي وقعتها الحكومة السابقة. في حين أكد وزراء مالية الدول الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يعترف بشرعية الحكومة الجديدة ويرغب في إبقاء اليونان على قدميها حتى تتمكن من دفع ديونها. فليس من همٍّ لدى أرباب المال والربا العالمي إلا العمل على دفع اليونان لتعمل جاهدة لسداد ديون غرقت بها اليونان بالتواطؤ ما بين حكومات فاسدة عملت كسماسرة للمال الربوي وبين أرباب المال.
وبلغ صلف الدائنين ذروته على لسان جيرون جيسيلبلوم الرئيس الألماني للمجموعة الأوروبية حين قال إنه لا يتوفر دعم سياسي لمسح ديون اليونان كما يطالب اليونانيون، إلا أنه قال أن المجموعة الأوروبية ستنظر في واقع الديون اليونانية بعد أن نكمل مراجعة الوضع المالي لليونان. وكان جيرون قد تحدث مع وزير مالية اليونان الجديد الذي أبدى تعاونا مع متطلبات المجموعة الأوروبية.
وفي الوقت نفسه فقد سارع البرلمان الأوروبي ممثلا بلجنة مراقبة الموازنة اليونانية بإرسال وفد من 8 أعضاء لليونان للاطلاع عن كثب على إجراءات الخصخصة وضبط ميزانية اليونان، في خطوة تؤكد على عزم الاتحاد الأوروبي على المضي قدما في خطة الإنقاذ التي من شأنها وضع مقدرات اليونان فريسة بأيدي الدائنين خصوصا الألمان منهم. وقد حث الفريق الأوروبي الحكومة اليونانية على الإسراع في تنفيذ المشاريع التي تم الاتفاق عليها مسبقا وتشمل عملية تسجيل الأراضي وإعادة تأهيل بحيرة كارلا، وبناء الطريق السريع، وخط القطار وميترو سالونيك وغيرها من المشاريع التي لا بد من تأهيلها وتحضيرها ليتم بيعها للدائنين من خلال صندوق تنمية مقدرات الجمهورية الهيليني(Hellenic Republic Assest Development Fund TAIPED).
ومن المرجح أن ينشأ سباق بين كبار المستثمرين العالميين للسيطرة على مقدرات اليونان. وستقود المؤسسات الألمانية من جهة والمؤسسات الأمريكية من جهة أخرى هذا السباق. فقد أورد معهد بروكنغز العالمي خبرا مفاده أن مجموعة من المستثمرين الأمريكان قد تقدموا بمشروع للسيطرة على البنوك اليونانية المتعثرة. حيث تقدم هذه المجموعة ما مقداره 5 مليارات يورو مقدما لتحريك البنوك اليونانية في حين عدم استعمال الدعم الأوروبي المقدر بـ25 مليار إلا إذا دعت الضرورة، وذلك مقابل الحصول على حصص كبيرة في البنوك اليونانية. وذكر التقرير أن الحكومة اليونانية تدرس بجد المقترح المقدم من الشركات الأمريكية.
والحاصل أن أزمة اليونان أكبر من مجرد تغيير حكومة أو بالأحرى إعادة انتخاب حكومة. فقد أجرت اليونان استفتاء سابقا أثناء المفاوضات على خطة أوروبا للإنقاذ. اعتبر تسيبراس أن الاستفتاء كان تفويضا له بالتوقيع على الاتفاقية وقد حصل. ولا شك أن تسيبراس سيعتبر إعادة انتخابه على رأس حزبه رئيسا للوزراء تفويضا آخر للمضي قدما في خصخصة مصالح اليونان العليا مقدمة لبيعها بثمن بخس في سوق الربا العالمي. وبالتالي فإن حكومة اليونان الجديدة ستستمر في المضي قدما فيما تم الاتفاق عليه سابقا، وما الحديث عن العمل على شطب الديون إلا شعارات انتخابية لا بد منها قبيل الانتخابات. والجدير بالذكر أن حكومة اليونان الجديدة القديمة تمثل اليسار الاشتراكي اليوناني. لذلك فإن الاشتراكية وإن كانت تتعارض مع الرأسمالية في أساسها، فإنها لا تستطيع أن تقدم أي حل ناجع ما دامت تعمل ضمن قواعد اللعبة الرأسمالية. فالاشتراكية في إطار الرأسمالية ليست إلا تخديرا للشعب وصرفه عن التفكير الحقيقي في الخلاص من أس المشكلة وهي تحكُّم النظام الرأسمالي في البلاد والعباد. وهذا لا يختلف عن وجود حكومة إسلامية أو تتبنى وجهة النظر الإسلامية وهي تعمل داخل إطار الرأسمالية أو الديمقراطية. فالمبدأ مهما أوتي من قوة وبعد نظر في الحلول الناجعة لا يمكن أن يؤتي أكله ويحقق نتائجه المرجوة إلا إذا عمل بجميع قواعده هو وبناء على أفكاره وركائزه. أما أن تعمل الاشتراكية والشيوعية ضمن إطار الرأسمالية فلا تعدو أن تكون ضغثا على إبالة.
وكذلك النظام الإسلامي، وما يسمى بالشركات ذات الطابع الإسلامي وبنوك الاستثمار الإسلامية وغيرها. فهي داخل النظام الرأسمالي لا تعدو أن تكون مجرد تبييض لما اسود من ظلام الرأسمالية وترقيع لما تمزق من ثوبه البالي. فالإسلام حتى ينتج عن تطبيقه العدل الذي هو صفة نظام الإسلام لا بد أن يستند على قاعدة الإسلام الفكرية وعقيدته الصحيحة وأن تتضافر فيه أنظمة السياسة والاقتصاد والاجتماع ومنظومة القيم وتكون كلها مستندة إلى القاعدة الفكرية نفسها. هنالك يصبح الإسلام حلا جذريا، وينتج عدلا على جميع المستويات يشعر به البعيد قبل القريب، وينال من ثمراته الناس جميعا.
فأزمة اليونان ومن بعدها إسبانيا وإيطاليا ومن ورائها أزمة العالم كلها ليس لها حل حقيقي إلا نظام جديد مبني على أسس جديدة تعتمد على تشريع من لدن عادل لا يعتريه هوى ولا تعتلجه مصلحة ولا يخالطه زيغ، من لدن عليم خبير لا يحده علم ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض. ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾.
رأيك في الموضوع