لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن العَلمَانيّة، وقد أعلن أردوغان مراراً وتكراراً أنه عَلمَاني، ويَدعُو لِلعَلْمَانيّةِ، ونصح أهل مصر بها.
هذا وإن مصطلح العَلْمَانِيّة مصطلح سياسي لا زال مدلوله ومعناه يخفى على كثير من المسلمين، خصوصاً أولئك المخدوعين بأردوغان، والمؤيدين له، الذين يظنون أنه مأخوذ من العِلْم، وهو أمر دعا إليه الإسلام، وحث على طلبه في كثير من الأحاديث النبوية.
فما هي هذه العَلْمَانِيّة؟ ومن أين أتت؟ وما المعنى الحقيقي لها؟ وما موقف الإسلام منها؟ هذا كله ما سنلقي عليه الضوء في هذه المقالة القصيرة. نقول وبالله التوفيق:
العَالمَانيّة (العَلْمَانِيّة) في العربيّة مُشتقّة من العَالَم. أمّا في الإنجليزية والفرنسية؛ فهي مُشتقّة من اليونانية بمعنى العامّة أو الشّعب، وبشكل أدقّ عكس الإكليروس أو الطّبقة الدّينيّة الحاكمة، وإبان عصر النهضة بات هذا المصطلح يشير إلى القضايا الّتي تهمّ العامّة أو الشّعب بعكس القضايا التي تهمّ الخاصّة.
أما في اللغات السامية، ففي السريانية تعد كلمة عَلمانية عَلما إلى ما هو مُنتمٍ إلى العالم أو الدّنيا، أي دون النظر إلى العالم الروحي أو الماورائي، وكذلك الأمر في اللغة العبرية (عُولَم) والبابليّة وغيرهم؛ وبشكل عام، لا علاقة للمصطلح بالعلوم أو سواها، وإنما يشير إلى الاهتمام بالقضايا الأرضية فحسب، وأول استعمال لكلمة العَلمانية عُثر عليه في كتاب "مصباح العقل" من القرن العاشر الميلادي لمؤلفه ساويرس بن المقفع الذي قال: "أمّا المصريون فرأوا أنْ يكون الأسقف، بالإسكندرية خاصة، بتولاً لم يتزوج في حال عَلْمانيّته".
وتقدّم دائرة المعارف البريطانية تعريف العالمانيّة بأنها: "حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأخروية. وهي تعتبر جزءاً من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة؛ الداعية لإعلاء شأن الإنسان، والأمور المرتبطة به، بدلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شئون الحياة، والتأمل في الله واليوم الآخر".
وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر الدولة العلمانية هي في بلد، أو دولة ذات نظام حكم عَلماني، وهي رسمياً تضمن كونها محايدة تجاه القضايا المتعلقة بالدين، كما أن الدولة العلمانية تعامل جميع رعاياها بشكل متساو بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية، وإن كان التساوي ليس مقتصراً على الدولة العلمانية، فقد تكون الدولة غير علمانية ويُذكر في دستورها أن الرعية متساوون فيما يتعلق بعقائدهم.
من الناحية السياسية، العَلمانية هي حركة في اتجاه الفصل بين الدين والحكومة، وغالبا ما كان يطلق عليه الفصل بين تعاليم الكنيسة، أو تعاليم المسجد، أو أي كنيس، أو معبد عن تعاليم الدولة.
ويمكن الرجوع إلى هذا الحد من العلاقات بين الحكومة، ودين الدولة، لتحل محل القوانين استناداً إلى الكتاب (مثل الوصايا العشر، والشريعة) مع القوانين المدنية، والقضاء على التمييز على أساس الدين.
هذا ويقال: إن العَلمَانية تضيف إلى الديمقراطية عن طريق حماية حقوق (الأقليات) الدينية معظم الأديان الرئيسة التي تقبل أسبقية قواعد العلمانية، والمجتمع الديمقراطي، ولكن ربما لا تزال تسعى إلى التأثير في القرارات السياسية، أو تحقيق مزايا محددة، أو النفوذ من خلال اتفاقات بين الكنيسة والدولة.
دَعَمَ كثيرٌ من النصارى وجود الدولة العلمانية، ويمكن أن نعترف بأن الفكرة قد دعمتها تعاليم الكتاب المقدس: "أعط ما لقيصر لقيصر، وما هو لله لله"، وهذا محل شك؛ ذلك لأن أهم القوى الأصولية الدينية في العالم المعاصر هي الأصولية النصرانية، والإسلام الأصولي، وكلها تعارض الأصولية العَلمَانيّة.
بعض الدول علمانية دستوريا مثل: كندا، الهند، فرنسا، أمريكا، تركيا، وكوريا الجنوبية، رغم أن ليس أيا منها متطابقة في أشكال الحكم. وفي الوقت نفسه لا يمكن بالضرورة اعتبار الدولة التي لا تمتلك ديناً رسمياً للدولة دولاً علمانية.
موقف الإسلام من العلمانية
العلمانية كفر أكبر مخرج عن الملة بالكتاب والسنة والإجماع، وإليكم بيان ذلك بالأدلة:
أمَّا الكتاب، فقد فرض الله على الحاكم المسلم أن يحكم الناس بما أنزل الله، وقد خاطب الله تعالى نبيه محمَّداً ﷺ، وخطابه لنبيه هو خطاب لأمته من بعده، ما لم يرد دليل يخصصه بالنبي وحده، فقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. وجميع هذه الآيات جاءت عامة في جميع من لا يحكمون بما أنزل الله، ولم يرد دليل يخصصها، والقاعدة الشرعية تقول: "يبقى العموم على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص".
وأما السنة، فقد روى ابن ماجه في سننه، والطبراني في المعجم الأوسط عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم».
وأما الإجماع، فقد أجمع الصحابة على الخروج على ولي الأمر إن ظهر منه كفر بواح عندهم فيه من الله برهان، وقد قالوا لعمر بن الخطاب الخليفة العادل: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا".
وللإسلام وجهة نظر أخرى حول ارتباط الدولة بالدين:
- الدولة في الإسلام ضرورة لا بد منها، وذلك لتبليغ الدين بالدعوة والجهاد، ولإنفاذ الأحكام الشرعية، وصيانة الحقوق، ووصول الدين إلى أهدافه وأغراضه في حفظ الدين والنفوس والعقول والأعراض والمال وغيرها.
- إبعاد الإسلام عن الحكم وتعطيل صلاحياته، ستصبح كثير من أحكامه وتشريعاته حبراً على ورق؛ لأنه لا يمكن للفرد وحده تنفيذ تلك الأحكام، كتنفيذ القصاص، وجباية الزكاة، وتأمين الطرق، ونشر الأمن، وفض الخصومات، والجهاد، وما شابه ذلك، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فلا تعلوه القوانين الوضعية الغربية.
- جاء الإسلام لتنظيم علاقة الناس بربهم، وجميع شئون الحياة، والدين عند الله تعالى هو الإسلام، والإسلام كما يدل عليه اسمه هو الاستسلام لله والانقياد له، والخلوص من الشرك.
- أوامر الله ونواهيه شملت الحياة بأسرها، فليس هناك جانب من جوانب الحياة أو شيء من نظمها إلا ولله تعالى فيه حكم، فحياتنا العقدية، والاجتماعية، والتربوية، والاقتصادية، والسياسية، وضع لنا أصول التعامل فيها، وفصل لنا بعض جوانبها تفصيلاً.
- القرآن اشتمل على كل نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. قال ابن كثير: قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء.
بقلم: الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع