أورد القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: "وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى".
فالإمام العادل الذي يرعى شؤون الناس بالإسلام رعاية صحيحة، ويخشى الله فيهم، ويقيم العدل بينهم، ولا غرابة أن نجد النبي ﷺ ذكره أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورأينا أبا بكر t في أول خطبة له بعد توليه الخلافة يقول: "ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه".
وهذا العدل كان موجوداً في كل عصور الدولة الإسلامية، فعمر بن الخطاب t جاءه أبو مريم قاتل أخيه زيد وقال له: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زيدا بيدي ولم يُهنِ على يده، فقال له عمر: أأنت قاتله؟ قال أبو مريم: نعم، فقال عمر: اغرب عن وجهي، فوالله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال أبو مريم: هل يمنعني هذا حقي؟ قال عمر: لا، فقال أبو مريم: مالي ولحبك؟ إنما يبكي على الحب النساء، بذلك جسّد عمر t قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
وقصة القبطي الذي ذهب يشتكي ابن عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث ضرب ابن عمرو القبطي أثناء السباق وقال له: أتسبق ابن الأكرمين؟ فاستدعى أمير المؤمنين عمرو بن العاص وابنه، وقال للقبطي: اضرب ابن الأكرمين، فضربه حتى شفي منه، وقال عمر لعمرو: مذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟
وهذا السلطان محمد الفاتح أمر ببناء جامع، وكلف أحد المعماريين بالإشراف عليه، ولم يكن المعماري مسلماً، وكانت أعمدة هذا المسجد من المرمر، وأمر محمد الفاتح المعماري أن يكون المسجد مرتفعاً ليبدو فخماً وحدد له الارتفاع، ولكن المعماري لأمر ما في البناء أمر بتقصير الأعمدة، وعندما سمع السلطان محمد الفاتح بذلك استشاط غضباً، وأمر بقطع يد المعماري، فلم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحق به، وذهب ليشتكي محمد الفاتح عند القاضي؛ الذي بدوره استدعى الفاتح وأمره بالوقوف على جانب خصمه، وسمع القصة، وكان حكمه أن تقطع يد محمد الفاتح، وما إن سمع المعماري الحكم حتى أصيب بالذهول، وقال: إنه يتنازل عن دعواه، وأن ما يريده هو تعويض مالي؛ لأن قطع يد السلطان لا يفيده في شيء، فأمر له القاضي بـ10 قطع نقدية كل يوم طوال حياته، ولكن محمداً الفاتح قرر أن يعطيه 20 قطعة تعبيراً عن فرحه بعدم قطع يده، وتعبيراً عن ندمه عما فعله.
هذا الحكم على السلطان؛ الذي فاز بمدح النبي ﷺ له في حديث فتح القسطنطينية، والذي كانت تهابه كل أوروبا، ليدلل على أن تحقيق العدل كان لكل رعايا الدولة الإسلامية.
وعالم على سبيل الهدى؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، جريء في الحق، يقوّم اعوجاج الحاكم، لا يهاب سلطاناً جائراً، لا يفتي على ذهب المعز وسيفه، ولا يأكل من مغرفة السلطان ويضرب بسيفه، لا يبيع بدينه عرضاً من الدنيا زائلاً، ويسهر على مصالح الأمة ويهتم بقضاياها، هو حارس للإسلام، ولا يسكت على حق وجب قوله، ولا يكتم حكماً شرعياً في قضية أو مشكلة، يدرك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾.
على هذا الأساس كان العلماء عاملين لدين الله بحق؛ فهذا الحسن البصري يتصدى لطغيان الحجاج والي العراق في حينه، ويجهر هو والعلماء في عصره بين الناس بسوء أفعاله، ويصدعون بكلمة الحق. وهذا سفيان الثوري عندما استدعاه أبو جعفر المنصور إلى مجلسه، فأنكر سفيان عليه تمويله لحجه وأتباعه بمبلغ كبير من بيت مال المسلمين، حتى قال سفيان له: "كم أنفقت في سفرك؟"، قال: لا أدري لي أمناء ووكلاء، قال سفيان: فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله تعالى وسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب t لما حج قال لغلامه: كم أنفقنا في سفرنا هذا؟ قال: 18 ديناراً، فقال عمر: ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين.
ولهذا قيل: "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء"، فإذا فسد العلماء من سيصلح البلاد؟! قال الشاعر: يا رجال الدين يا ملح البلد *** من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يحرصون على تقويم اعوجاج الناس وصهرهم في بوتقة الإسلام، ليستقيم الناس على الحق ويلتزموا الجادة، وليسيروا أعمالهم وفق أوامر الله، ليكونوا قرآناً يمشي على الأرض، وإلا عم العذاب الجميع، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. إذن؛ القضية ليست في أن يكون الفرد صالحاً في ذاته فقط، وأن تكون مقوماته الفردية سليمة، بل يجب أن يكون مصلحاً لغيره، فالحاكم يجب أن يكون مصلحاً، وكذلك العالم والمشايخ، سئل النبي ﷺ "أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: «نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ» رواه البخاري.
ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى؛ يلتزمن باللباس الشرعي وبمواصفاته الدقيقة ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾، ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، ومما عمت به البلوى في بلاد المسلمين؛ أن باتت الواحدة من النساء تظن أن أي لباس يستر العورة يعتبر شرعياً، حتى رأينا بعض المشايخ لا يتحرجون من الجلوس مع مذيعات متبرجات، ورأينا تقديم المتبرجات ليكنّ نماذج للنساء بل وفي صدارتهن، وهذا كله يؤدي إلى الفتنة والنبي r يقول: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» رواه البخاري
هذه أربع إن وجدت عُصم الناسُ من البلاء، وصلح المجتمع واستمر صلاحه.
بقلم: د. نبيل الحلبي - غزة - الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع