من أعظم المصائب والفواجع التي أصابت الأمة الإسلامية بعد وفاة نبيها ﷺ، وانقطاع الوحي هي مصيبة هدم الدولة التي أقامها رسول الله ﷺ وثبت أركانها الخلفاء الراشدون ووسع بنيانها الخلفاء من بعدهم. أسقطت في الثامن والعشرين من شهر رجب لسنة 1342هـ الموافق للثالث من آذار/مارس سنة 1924م على يد الكافر المستعمر وعلى رأسهم بريطانيا بمعاونة خونة العرب والترك أمثال الهالك مصطفى كمال الذي تولى كِبر هذه الجريمة، والذي أعلن إلغاء نظام الخلافة وطرد خليفة المسلمين، وإعلان تركيا جمهورية علمانية. والشريف حسين وآل سعود الذين حاربوا الخلافة بسلاح الإنجليز أملا في قيام خلافة للعرب كما وعدهم لورنس العرب، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فلم يجدوا غير استعمار الإنجليز والأوروبيين لبلادهم، واتخاذهم عملاء وخدماً للاستعمار على دويلات هزيلةِ.
وبهدم الخلافة خسر المسلمون ما لا يكاد يحصى، ونذكر في المقالة بعضا من ذلك:
أولاً: فقد المسلمون الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ والعيش في ظل أحكام الإسلام وعدله، وفقدوا القضية المصيرية لهم وهي تطبيق الإسلام وحمله رسالة هدى للعالم بالدعوة والجهاد ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، فقضية المسلمين في الحياة ليست الأكل والشرب والنكاح، بل قضيتهم هذا الدين وحمله للأمم والشعوب، وقد فهم المسلمون الأوائل هذا الدور، فهذا ربعي بن عامر يقول لقائد الفرس: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، وانظر لقوله "ابتعثنا الله" لأننا الأمة الوحيدة التي حملت الرسالة من بعد نبيها عليه الصلاة والسلام وهذا شرف عظيم، فقضيتنا إخراج البشرية من جور الرأسمالية إلى عدل الإسلام. والحكم بما أنزل الله مما هو معلوم وجوبه في الإسلام فقد عده العلماء أنه أوجب واجبات الدين، يقول الإمام ابن حجر الهيثمي "فاعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم جعلوا نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجباً بل جعلوه أهم الواجبات حين انشغلوا به عن دفن رسول الله ﷺ".
ثانياً: خسر المسلمون وحدتهم السياسية في ظل كيان واحد "الخلافة"، وهذه الوحدة هي من أسباب القوة بعد صحة العقيدة والمبدأ، فأصبحوا يعيشون في ظل دويلات هزيلة ضعيفة تحميها الدول المستعمرة، وصف ترامب السعودية بأنها لا تستطيع الاستمرار أسبوعين دون حماية أمريكا، وأنهم "يجب أن يدفعوا مقابل حمايتهم". ولأجل القوة توحدت أوروبا لمحاولة الوقوف في وجه أمريكا والتنافس معها في استعمار العالم.
وهذا التقسيم سببه الدول الاستعمارية التي أسقطت الخلافة وقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات وطنية ليحولوا بينهم وبين وحدتهم، ورسموا حدودا كي يرتبطوا بها ويقدسوها ويفترقوا على أساسها، فأصبح المسلم أجنبياً في البلد الآخر، ولا يستطيع الانتقال إلا بتأشيرة. وإذا استُضعف بلد كما هو حاصل اليوم، يرى أصحاب البلاد الأخرى أن هذا شأن خارجي بمقياس الوطنية، فيأتي دورهم للاستضعاف ولسان حالهم "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". ونتيجة لهذا التقسيم كذلك حُرِم المسلمون من الثروات التي حباها الله لهم من مثل البترول الذي أصبح ملكا للملوك والأمراء يتصرفون به وفق أهوائهم ويبيعونه بثمن بخس للكافر المستعمر مقابل حماية كراسيهم وبناء الناطحات وغيرها من متاع الدنيا، وقد حلت هذه الوطنية محل رابطة الإسلام العظيم.
ثالثاً: خسر المسلمون مكانتهم بين الشعوب، فقد كانت دولتهم الأولى في العالم وتدفع دويلات أوروبا الجزية لهم، وفتحوا بعض الدول الأوروبية كاليونان وغيرها ووصلت جيوش المسلمين أسوار فينّا حتى اجتمع الأوروبيون تحت مسمى عصبة الأمم ليحموا بلادهم من سيطرة الخلافة.
وكانت دولتهم يخاطب خليفتها هارون الرشيد السحاب أن تمطر في أي بلد فإن خراجها يأتيه. ويخاطب خليفتها العثماني سليمان القانوني ملك فرنسا بمنع الرقص في الشوارع في بلاده حتى لا تنتقل هذه السخافات إلى بلاد المسلمين التي لها حدود مع فرنسا، وإلا فسوف يأتي بنفسه لفرنسا ويوقف هذا الرقص، وقد قال المؤرخ هامر "إن الرقص كان سريا لمدة مائة عام في فرنسا بعد هذه الرسالة". ويخاطبُ خليفتُها عبد الحميد الثاني فرنسا عندما علم بمسرحية فيها إساءة لنبي الإسلام ﷺ قائلاً: "أنا خليفة المسلمين عبد الحميد خان، سأقلب الدنيا على رؤوسكم إذا لم توقفوا تلك المسرحية" فتوقف فرنسا عرضها، وحاول كاتب المسرحية عرضها في بريطانيا وأمريكا فاستطاع الخليفة عبد الحميد منعها أيضاً، بل كانت دولتهم تجبر أمريكا على توقيع اتفاقية بغير اللغة الإنجليزية واتفاقية على دفع أموال وهو ما لم يحدث في تاريخ أمريكا القديم والجديد، ففي 21 صفر 1210هـ الموافق 5/9/1795م وقعت المعاهدة المكونة من 22 مادة وقعت أمريكا على أن تدفع لولاية الجزائر التابعة لدولة الخلافة العثمانية فورا مبلغ 642 ألف دولار ذهبي وتدفع لها سنويا مبلغ 12 ألف ليرة عثمانية ذهبية، وفي مقابل ذلك يطلق سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين في الجزائر ولا تتعرض ولاية الجزائر لأية سفينة أمريكية لا في الأطلسي ولا في البحر الأبيض. وقع وصدق على المعاهدة جورج واشنطن بنفسه، وبكلر بك حسن باشا من جهة الخلافة العثمانية، فشتان بين اتفاقيات ورسائل الخلافة والخلفاء مع الغرب واتفاقيات ورسائل الاستجداء من الحكام الطواغيت الجاثمين على صدور المسلمين اليوم!
بل كانت دولتهم تحرك الجيوش من أجل امرأه صرخت وا إسلاماه وا معتصماه، واليوم الآلاف من النساء يقتلن ويغتصبن فيصرخن وا إسلاماه ولكن لا مجيب، فلا وجود للإمام الجُنة والحامي لأعراضهن.
رب وا معتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم!
هذا غيض من فيض ما فقده المسلمون بغياب الخلافة، فلا طريق ولا سبيل لإرجاع هذه الأشياء التي فقدناها من زوال حكم الله والفرقة والشتات والبقاء في مؤخرة وذيل الأمم والشعوب إلا بالخلافة، التي نسأل الله أن يعجل لنا بها في زماننا حتى يتذوق المسلمون طعم العزة والنصر بعدما تجرعوا لمائة عام كأس الذل والضعف. وهي عائدة بعد هذا الحكم الجبري بإذن الله كما بشر بها نبينا ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
بقلم: المهندس باسل مصطفى – ولاية السودان
رأيك في الموضوع