الثورة هي التغيير، والأصل في الثورة في الإسلام التغيير على من بدّلوا أحكام الإسلام، ومن الأساليب الإسلامية الثورية المشهورة هي إنكار المُنكر ومُحاسبة الظالمين، والأخذ على أيديهم، والخروج عليهم إن اقتضى الأمر، قال عليه الصلاة والسلام: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» (رواه أبو داود)، فالأصل في الإسلام إذاً هو التغيير على الحكام الظلمة، ومنع الظالم عن ظلمه، والأخذ على يديه، والخروج عليه إن استمرّ في الظلم، والانتصار للمظلومين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ ومعناه إعانة المظلوم، والانتصار له ممّن ظلمه بالتغيير عليه.
ومجتمعاتنا اليوم تعج بالظلم، وتموج بالظالمين، وأكبر ظلم فيها هو عدم تطبيق أحكام الشرع، وعدم وجود إمام للمسلمين، وعدم وجود جماعة لهم (دولة)، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا إسلام إلاّ بطاعة الله، ولا خير إلاّ في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامّة".
ولعلّ أكبر عقبةٍ كأداء تقف أمام الثورة، وتحول دون نجاحها، هي وجود قيادات ونُخب محسوبة على الإسلاميين انقلبت على الفكر الإسلامي، وارتمت في أحضان أتباع الفكر الغربي، وما زال - وللأسف الشديد - الكثير من العوام يثقون بهم، مع أنّهم يتواطؤون علناً مع الحكام العملاء ومع الكفار، ويقبلون بفكرة الإصلاح الجزئي بمعنى الترقيع، فيرضون بتطبيق بعض الأحكام الشرعية الفردية، فيما يقبلون بتطبيق جميع الأحكام الوضعية على المجتمع، فيدعمون بذلك أنظمة الحكم الباطلة، ويُطيلون من عمر الأنظمة الفاسدة التي تُطبق الكفر على الناس، بينما يتهرّبون من التغيير الحقيقي، وهم بذلك يُفسدون الثورة، بل وينقلبون عليها، ويُصبحون جزءاً من الثورات المُضادة المدعومة من الكفار وأذنابهم.
لذلك كان لا بُد من فهم الثورة بمفهومها الشامل المُتعلّق بتغيير المفاهيم - كل المفاهيم - المُخالفة للشرع والتي استوطنت في مُجتمعاتنا، بما فيها مفاهيم الكفر بكل أشكاله وأنواعه، وبما فيها مفاهيم الجبروت والطغيان.
فالبداية إذاً تكون بتغيير المفاهيم غير الإسلامية، وتغيير المفاهيم المغلوطة، وتصحيحها، وإحلال المفاهيم الإسلامية مكانها بعد طرحها وضرب كل ما يُناقضها.
فالثورة في الواقع ليست هي مجرد عمل عسكري أو مجرد مسيرات ومظاهرات واحتجاجات، بل هي ثورة مفاهيم قبل أنْ تكون عملية تغيير للأوضاع والهياكل والأنظمة، وهي ثورة سياسية فكرية قبل أنْ تُصاغ القوانين وتُسن الدساتير وتوضع الأنظمة، لأنّ الأعمال العسكرية والاحتجاجات والمسيرات وما شابهها تكون محدودةً في الزمان والمكان، بينما الأعمال السياسية تتصف بالديمومة والاستمرار، ولأنّ الأعمال العسكرية والاحتجاجات والمسيرات تحتاج إلى توجيه وضبط من الساسة، فالأعمال السياسية هي الموجه والمحرك لأي عمل عسكري أو جماهيري وليس العكس، ولأنّ المفاهيم إذا تغيّرت يتغير بتغيّرها السلوك، فالمفاهيم هي الأساس والمُرتكز والمُنطلق في أي عملية تغيير شاملة، ومن هنا كانت الثورة في الأصل هي عملية تغيير سياسية تتضمن الصراع الفكري والكفاح السياسي لإيجاد رأي عام جديد مُتأثر بالمفاهيم الجديدة ضمن الجو الإيماني المنبثق من العقيدة الإسلامية، وإذا ما تمّ تغيير المفاهيم تتغيّر تبعاً لها القيادات والمؤسسات والهياكل، فتنجح الثورة، ويسقط النظام، وتُقام الدولة.
وعملية التغيير هذه تحتاج بالضرورة إلى كتلة أو حزب يكون بمثابة الطليعة التي تتقدم الصفوف في ذلك العمل الثوري الجماهيري، فيتولى طرح الأفكار، ويقوم بالصراع الفكري والكفاح السياسي، ويتبنى مصالح الأمة، ويكشف مخططات الكفار وعملائهم بكل جرأة وصلابة، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، والأمة هنا تعني الكتلة أو الجماعة أو الحزب، والدعوة إلى الخير تعني الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشمل الحكام كما تشمل المحكومين، وهو ما يعني أنّ عمل الحزب أو الكتلة هو عمل سياسي بامتياز يتصف بالاستمرارية والشمول والديمومة، وعماده عملية طرح الأفكار والمعالجات لتتحول إلى مفاهيم وقناعات عند الناس، فتحل محل المفاهيم المنحطة والمغلوطة المنبثقة من الحضارة الغربية.
وعملية التغيير الثورية في هذه الأيام هي ضرورة مُلحة وحاجة ماسة للأمّة، وبها تحدث العملية الصهرية للأفكار العقيمة والبالية المنتشرة بين الناس، فيتم صهرها في بوتقة المفاهيم الإسلامية الصحيحة المنبثقة عن العقيدة الإسلامية.
وإذا ما تغيرت المفاهيم تأتي بعدها بشكلٍ طبيعي مرحلة تغيير القيادات والأشخاص، وتزول بذلك الأنظمة التابعة للاستعمار، وتزول معها أحكامها الوضعية، وتُطبق بدلاً منها الأحكام الشرعية بكل سلاسة وانقلابية من خلال قيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تحكم الناس بما أنزل الله، والتي توحّد المسلمين في دولةٍ واحدة بوصفهم جماعة لها إمام، ويتغير الدستور، وتتبدل القوانين، وتظهر ثمار الثورة بشكلٍ فوري، ويقع التغيير الانقلابي، وتُصبح الأنظمة العميلة أثراً بعد عين...
رأيك في الموضوع