في خطابه قبل أيام، أكد رئيس وزراء يهود نتنياهو تمسكه برفض الانسحاب من محور فيلادلفيا، حيث كان قد صوت أعضاء ما يسمى بالكابينت بالموافقة على خارطة أماكن البقاء في المحور، باستثناء وزير الجيش، وقد اعتبر نتنياهو أن البقاء في المحور حيوي لتحقيق "أهداف حربه" التي تمر عبر إبقاء السيطرة عليه، وأنه حيوي لأمن كيانه، كما وصفه بأنه مصدر "الأكسجين والأسلحة لحماس"، وبأن العودة إليه إن تم الانسحاب منه لن تكون ميسورة خصوصا مع التغطية الدولية.
إن من الواضح، أن نتنياهو وهو يصر على إبقاء السيطرة على المحور، إنما يستعمل ذلك كذريعة مستحدثة من ذرائعه لتعطيل ما يسمى بـ"الصفقة"، وبالتالي إطالة أمد حربه الوحشية. وقد سبق قبل ذلك استعماله لذرائع شتى في جولات المفاوضات الماضية، وهو يصر على ذلك مع وجود معارضة شديدة له في الشارع، وفي أحزاب المعارضة التي تقدم أولوية الصفقة لتحرير المحتجزين على البقاء في المحور، كما أنه يصر على البقاء في المحور بالرغم من تفنيد الذريعة الأمنية والتقليل من أهميتها من قبل قادة أجهزته الأمنية، خصوصا في ظل ما يعرض من الحلول التكنولوجية وأنظمة الإنذار والضمانات التي تقدمها أمريكا والجانب المصري. ولذلك فإن قضية محور فيلادلفيا هي مسألة ذات أغراض سياسية كما وصفها اليهود أنفسهم وليست أمنية، يسعى نتنياهو من خلالها إلى إبقاء الحرب قائمة، وإلى البقاء في غزة وإفشال الصفقات والاستمرار في خطته الخاصة.
ومن جانب آخر، فإن احتلال ممر فيلادلفيا والبقاء فيه يعد مساسا باتفاقية كامب ديفيد مع مصر، والتي نصت على إنشاء مناطق عازلة على طول الحدود بين مصر والكيان، بوجود عسكري رمزي مشروط، وهو الوضع الذي ظل قائما حتى عام 2005، حيث تم تسليم الممر للسلطة الفلسطينية وبإشراف أوروبي، ومن ثم توقيع "اتفاقية فيلادلفيا" بين مصر والكيان كملحق أمني لمعاهدة كامب ديفيد.
خلال الحرب على غزة، لوح الكيان بنيته احتلال محور فيلادلفيا ومعبر رفح وذلك خلال الكلام عن اجتياح رفح، وقد كان يقابل بالرفض من جانب النظام المصري، غير أن ما حصل لاحقا هو أن الكيان قد احتل معبر رفح، واجتاح رفح بالفعل، واحتل محور فيلادلفيا تحت عين النظام المصري وسمعه، ولم يحرك النظام المصري ساكنا، ولم يكن لرفضه أية قيمة، وها هو رئيس وزراء الكيان يصر بكل عنجهية على البقاء ضاربا بالنظام المصري عرض الحائط، ليس فقط كونه طرفا في معاهدة، بل وكوسيط كذلك!
وأما موقف النظام المصري فإنه ليس فيه أي جديد، فقد أثبت أمام كيان يهود أنه ليس لديه أي احترام للذات ولا كرامة، ولا مفهوم حقيقي "للسيادة"، وأنه ليست لديه أية خطوط حمراء ذاتية، فمن يهن يسهل الهوان عليه! وهو قد هان مرات ومرات، وهو الذي سكت عن إبادة غزة على حدوده وشارك في حصارها. وأما التصريحات الغاضبة من قبله، والمواقف التي يبدو فيها نوع من التصعيد فهي أقرب للتعبير عن الخطوط الأمريكية تجاه الكيان، ويسير على إيقاعها، وإنه وإن كان هناك تبرم أمريكي من مواقف نتنياهو وعناده وعنجهيته، ولكن ذلك لم يصل إلى الجدية على إجباره، وهو ما ينعكس على الموقف المصري الذي صدرت منه تصريحات هنا وهناك لشخصيات بمستويات متوسطة، ولكنها بكل الأحوال غير ذات بال، بل فاقدة للتأثير، خاصة مع استمرار إعلان النظام المصري أن أقصى ما سيذهب إليه هو إعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد والرجوع إلى الدولة الراعية، أي أمريكا، وأن الطرق الدبلوماسية هي الطريقة الوحيدة في التعامل مع خروقات الكيان، غير أن أمريكا وإن كانت إدارتها معنية في إبرام صفقة، ولكن الأمر لم يصل عندهم إلى حد إجبار الكيان والتصرف معه بقسوة والتخلي عن دعمه، بينما هي تبيع الأوهام، وهذا لا ينفي كذلك أن نتنياهو يراوغ هربا من أية صفقات قبل الانتخابات الأمريكية التي يراهن على نتائجها لعقد صفقاته وتحقيق مشاريعه.
على أن الحقيقة المرة، أن أمن كيان يهود لا يأتي كما يزعم قادته من السيطرة على معبر أو ممر، بل إن الأنظمة، هي الأساس الأول في أمن الكيان وهي الحارس له كالنظام المصري، ومثله النظام الأردني والنظام السوري، والكيان يدرك ذلك، ولكن عنجهية نتنياهو وبجاحته في تحقيق أغراضه جعلته يزدري حتى تلك الأنظمة على الرغم من تآمرها!
إن من المؤلم جدا، أن يكون مصير دماء المسلمين التي تراق في غزة مرتبطاً بعنجهية نتنياهو ومزاجه، أو بجدية أمريكا التي تتطلع إليها الأنظار في الضغط لإيقاف الحرب، في حين إنه ليس للأمة الإسلامية في الأمر كلمة فعلية، ولا لقواها وجيوشها قرار مؤثر! وبينما لا يزال حكام المسلمين العملاء جميعا يكررون الكلام السمج عن القوانين الدولية، والواجبات الدولية، والالتزام بالمعاهدات، يدوس العدو الوقح معاهداتهم الخيانية بدباباته كما يدوس سيادتهم بأقدامه وهو مستمر بممارسة القتل والإبادة.
إن ما يجري من تعامل الكيان مع المعاهدات ليس غريبا على يهود، فهو ليس إلا تأكيدا عمليا لما أخبر عنه القرآن الكريم من أنهم ليسوا أهل عهود ولا مواثيق، ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وأنهم أكثر الناس غدرا ونقضا لتلك المواثيق، كما أن ما يجري يؤكد بأن المعاهدات والقوانين الدولية ليست إلا ملجأ الضعفاء وملاذ المتخاذلين، خصوصا مع عدو وقح ككيان يهود، حيث لم تمنعه معاهداته من الفساد وسفك الدماء، في حين كانت تلك المعاهدات المشؤومة كاتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة حبلاً في رقاب الحكام كحبل الدواب، وقيودا قيدوا بها أنفسهم ولا يزالون يقدسونها، بينما يدوس الكيان تلك الاتفاقيات منذ زمن بعيد ولا يزال.
والخلاصة، أنه ما كان لهذا الاستهتار والصلف من نتنياهو أن يكون لولا ما يراه من خور الحكام وجبنهم، وهو يدوس أطرافهم فلا يحركون ساكنا، ويخرق مواثيقهم وهم صامتون صمت الجبان، بل وأكثر من ذلك حين يشن حربا وحشية على أهل فلسطين، وهم يمارسون دور الوساطة وكأنهم طرف محايد كما يفعل النظام المصري، أو ينظرون نظر المغشي عليه من الموت كما يفعل النظام الأردني، والخلاصة كذلك، أن الأمر ليس بحاجة إلا إلى معاهدة واحدة فقط، وصفقة واحدة فقط، عهد من الأمة وقواها مع الله سبحانه على نبذ كل خيانة وكل خائن، وصفقة مع الله على الجهاد حتى تحرير بيت المقدس وقلع كيان الشر من جذوره.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع