بعد سنوات من القطيعة المعلنة عادت العلاقات طبيعية وكأن شيئا لم يكن وانتهى التراشق الإعلامي واحتضن أردوغان السيسي مديرا ظهره للإخوان الذين احتواهم في تركيا لسنوات ما بعد الانقلاب، والحقيقة أن العلاقات لم تنقطع يوما بين النظامين اللذين يعملان لدى سيد واحد هو أمريكا، وقد كانت مصالح سيدهما تقتضي وجود هذا التنافر والعداء المعلن الذي كان في صالح النظام المصري ولحمايته، وقد قلنا سابقا في غير مرة إن هذا ما تقتضيه مصلحة أمريكا ولو اقتضت مصلحتها اجتماعهما فسيلتقيان ويتعانقان وها هو يحدث الآن، وهو لم يكن رجماً بالغيب بل قراءة صحيحة للواقع ومعطياته ونظرة له من زاوية الإسلام؛ فقد مكن هذا العداء المعلن أردوغان من احتواء الإخوان وغيرهم من المعارضين وكبح جماحهم وتفريغ ثورتهم وحرفها عن مضمونها، وتهدئتهم مع مرور الوقت حتى رأينا المبادرات تخرج منهم خانعة ملؤها التنازلات والخضوع راغبة في التصالح مع النظام على شروطه! ولكن حتى هذا المستوى من الخنوع لم يقبل به النظام، وكأنه يقول لهم لا أمان لكم حتى يظهر منكم الانسلاخ الكامل من دينكم، ما يذكرنا بقصة الديك الذي طلب منه صاحبه ألا يؤذن وإلا ذبحه، ثم تمادى فطلب منه تقليد الدجاج وتمادى، فطلب منه أن يبيض وإلا ذبحه فقال في نفسه يا ليتني مت وأنا أؤذن، ولكنهم حتى هذه لم يقولوها، وما زالوا ينخدعون بالحكام ويسلمونهم رقابهم ويلدغون من الجحر نفسه، وما زالوا يبررون لأردوغان وأمثاله مخالفاتهم للشرع ودورانهم في فلك الغرب وحتى مشاركتهم في قتل المسلمين وخذلان أهلنا في الأرض المباركة بدعاوى باطلة كالحنكة السياسية وفقه الواقع والتوازنات وأمور أخرى ما أنزل الله بها من سلطان! رغم ما ثبت يقينا من أردوغان وما أقر به بنفسه وعن نفسه من كونه علمانياً يسير على خطا الهالك مصطفى كمال.
لم تنقطع العلاقات التجارية ولا السياسية بين مصر وتركيا رغم حالة العداء المعلن بين النظامين والاتهامات المتبادلة التي لم تكن إلا ستارا يحمي به أردوغان مصالح أمريكا في بقاء السيسي واستقرار حكمه، عن طريق احتواء معارضيه وعندما انقطع أثرهم وضعفت تكتلاتهم ولم تعد لهم قدرة على تحريك الشارع أدار ظهره لهم وألزمهم بحدود معينة؛ ففي آذار/مارس 2021 ألزمت الحكومة التركية قنوات المعارضة المصرية التي تبث من أرضها بالتوقف عن مهاجمة السيسي ونظام الحكم في مصر، كما ألقت السلطات التركية القبض على 50 شاباً مصرياً ضمن حملة اعتقالات مستمرة بدأت مباشرة بعد انتهاء الانتخابات التركية، دون أي معلومات واضحة حول مدة احتجازهم، بحجة مخالفتهم لشروط الإقامة. وهذه الأمور كانت بمثابة تحذير للمعارضة المصرية في تركيا حتى تلتزم الخطوط الحمراء وتتوقف عن مهاجمة النظام المصري.
إن الغاية من التقارب بين النظامين في مصر وتركيا والزيارات المتبادلة هي العمل معا على ملفات تخدم سياسة أمريكا وتعمل على بسط نفوذها من جهة، ومن جهة أخرى ملف غزة وما يحدث فيها وضرورة ضبط الشارع حتى لا تتفاقم الأمور الأمر الذي قد يسقط بعض الأنظمة وربما كلها، ومن جهة ثالثة مسألة الغاز في شرق المتوسط الذي يحتوي على احتياطيات هائلة، وضرورة إيجاد بيئة مستقرة لاستخراجه وتوفيره كبديل لأوروبا عن الغاز الروسي. أما التعاون في الجانب الاقتصادي فيأتي على هوامش الزيارات بغاية رفع أسهم رأسي النظامين والتخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية التي يعانيان منها وخداع الناس ليتوهموا بوجود بارقة أمل جراء هذا التقارب الاقتصادي الذي لم ينقطع أصلا.
أما مسألة بسط النفوذ فتعمل فيها مصر وتركيا على قدم وساق؛ فليبيا ساحة من ساحات الصراع بين أمريكا وبريطانيا يدعم فيها النظام المصري حفتر عميل أمريكا بشكل مباشر بينما يلعب أردوغان بورقة الإسلام ويخترق الإسلاميين تماما كما فعل في سوريا سابقا لخدمة أمريكا وكما فعل حينما احتوى شباب مصر الثائر في تركيا، ولأن ليبيا تشكل مصلحة استراتيجية لأمريكا، يدعم أردوغان حكومة الوفاق الوطني التي كانت معترفاً بها دولياً من قبل الأمم المتحدة، وترأسها فايز السراج. وكانت تضم أطيافاً سياسية عدة، ومن بينها شخصيات وأحزاب ذات صلة بجماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من أن السراج نفسه ليس من الإخوان، فإن حكومته كانت تحتوي على عناصر من التيار الإسلامي، بما في ذلك أشخاص من حزب العدالة والبناء، وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، ولهذا كان تحرك أردوغان مستغلا ورقة الإسلام المعتدل التي يجيد استغلالها واللعب بها وتطويعها لخدمة أمريكا وبسط نفوذها وربط أبناء الأمة بحبال العمالة من خلالها، أو استدراجهم وربطهم بالمال السياسي القذر وتفكيك تكتلاتهم أو توجيهها وتحييدهم في ساحة الصراع حتى يستتب الأمر لسادته في البيت الأبيض، فهو لا يختلف عن السيسي وغيره من حكام بلادنا اللهم إلا في ناحية الخبث وسوء الطوية فهو أشدهم خبثا وأعظمهم خطرا على الإسلام والأمة وشبابها لكونه يستغل الإسلام في صراع سادته مع الأمة.
فعمل أردوغان مع السيسي اليوم أهم غاياته متعلقة بشأن غزة وضرورة فرض استقرار للمنطقة يمنع حدوث قلاقل تؤثر على النفوذ الأمريكي فيها، والشأن الآخر هو ما يحدث في الصومال ومحاولات تقسيمها لإيجاد موطئ قدم لأمريكا هناك، وما تحرك النظامين المصري والتركي إلا لهذا الشأن، فالنظام المصري لم ولن يتحرك من أجل الماء ونقص حصة مصر منه فهذا لا يعنيه وإنما تعنيه مصالح سادته في البيت الأبيض.
إن خطر أردوغان يكمن في تمسحه بالإسلام بينما هو أشد حكامنا خبثا وإجراما وتعاملا مع أعداء الأمة وخضوعا لهم فهو سهم مسموم في كل الملفات التي توكلها له أمريكا لتضمن من خلاله أن تفت في عضد الأمة وتكسر همتها.
إن بياننا لواقع ما عليه أردوغان وما وراء التقارب بينه وبين رأس النظام في مصر يجعلنا ندرك ما يحاك للأمة ليل نهار وكيف يكون التصدي له وإفشال مؤامرات الغرب وحقن دماء المسلمين التي تراق في صراعات على النفوذ لصالح الغرب. وإن خطابنا الآن هو للمخلصين في جيوش الأمة لينحازوا لصفوف الواعين من أبنائها الحاملين لمشروعها عسى أن يؤلف الله بينهم وأن ينصر بهم دينه وجنده فتقام بهم للإسلام دولة تنهي عقود هيمنة الغرب وتقطع دابره ودابر عملائه وتحمل الإسلام للعالم رسالة هدى ونور، نسأل الله أن يكون عاجلا وبأيدينا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع