قبل الخوض في الآثار السياسية والاقتصادية لاتفاق إيران النووي مع الدول الكبرى الست، والتي تشمل الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا والصين بالإضافة إلى ألمانيا، ينبغي القول بأنّ بنود الاتفاق وآليات تنفيذه التي تم التوافق عليها تُسقط أي أمل لدى إيران بأن تكون في يومٍ من الأيام قوة نووية، وتجعل من برنامجها النووي الذي طوّرته على مدى سنوات طوال لا يعدو عن كونه مجرد نظريات علمية مسطرة على الورق، وتُحيل تجهيزاتها النووية العديدة التي استنزفت جزءاً كبيراً من ثروتها وعرق أبنائها إلى مجرد كومة من الحديد الخردة التي يعلوها الصدأ والغبار.
فبعد كل هذه الجهود الضخمة التي بذلتها إيران في العقدين الأخيرين في تطوير برنامجها النووي، وبعد كل هذه المفاوضات المضنية التي خاضتها مع الدول الكبرى للاحتفاظ بقدراتها النووية التي بنتها يأتي هذا الاتفاق ليعيدها إلى نقطة الصفر، وليحوِّل مشروعها النووي إلى مجرد سراب نووي تاريخي.
وإلقاء نظرة سريعة على أبرز بنود الاتفاق يؤكد أنّ إيران قد قبلت بهدم برنامجها النووي بأيديها، ومزّقت ملاءة فخرها بإملاء من أعدائها أعداء الأمّة الإسلامية بقيادة أمريكية، فقد التزمت في الاتفاق بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 % لمدة خمس عشرة سنة، بعد أن كان بمقدورها تخصيبه بنسبة تزيد عن العشرين بالمائة وصولاً إلى تخصيبه في نهاية المطاف إلى تسعين بالمائة وهي النسبة التي تُمكّنها من صنع قنبلة نووية، وأمّا هذه النسبة التي قبلت بها من التخصيب والتي تقل عن الأربعة بالمائة فإنّها لا تصلح حتى للاستخدامات المدنية.
والتزمت إيران في هذا الاتفاق أيضاً بتشغيل أقل من ستة آلاف جهاز طرد مركزي بدائي من أصل عشرين ألفاً تملكها، بحيث قبلت بوضع الأجهزة المتطورة منها في مخازن تخضع للتفتيش الصارم من قبل مفتشي وكالة الطاقة الذرية، وحتى الأجهزة البدائية القليلة المسموح بتشغيلها فإنّها تنتمي إلى الجيل الأول والتي لا تصلح لإنتاج اليورانيوم المخصب للأغراض السلمية فضلاً عن العسكرية.
وأمّا بالنسبة لليورانيوم الفعلي الموجود بحوزة إيران والذي تصل كميته إلى حوالي عشرة آلاف كيلو غرام فقبلت بأن تقوم مفاعلات إيران في ناتانز وفوردو بالتخلص من معظمه، والاحتفاظ فقط بثلاثمائة كيلو غرام منه، وذلك عبر تحويل تسعة آلاف وسبع مائة كيلو غرام منه إلى غاز، وبذلك يستحيل الاستفاده منه نهائياً في صناعة القنبلة الذرية ، لأنّه لا يمكن تحويله إلى البلوتونيوم الذي يُستخدم في تلك الصناعة.
وبالإضافة إلى ماسبق فقد وافقت إيران على عدم بناء منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم وبناء مفاعل جديد للمياه الثقيلة طيلة 15 عاما.
ومن أهم الآثار السياسية التي تترتب على هذا الاتفاق التأكيد على أنّ لإيران دوراً مرسوماً لها في المنطقة لا يخرج عن المسار الذي ترسمه لها أمريكا، وإنّ تضحيتها ببرنامجها النووي المتقدم بهذه البساطة يؤكد أنّها دولة غير مستقلة حقيقة، وأنّها لا تملك فعلاً القرار السياسي المستقل الذي يُمكنها على الأقل من رفض هذا الاتفاق المهين والمجحف بحق الشعب الإيراني المسلم وبحق الأمة الإسلامية، بل إنّ فعلها هذا يُظهر مدى ديمومة ولائها وتبعيتها لأمريكا من خلال هكذا اتفاق مذل، وإنّ جعجعة وسائل إعلامها ضد العنجهية الأمريكية ليس سوى ستار من دخان يحجب رؤية تلك التبعية عن عيون العوام وعيون المبهورين بالثورة الإيرانية.
وأمّا زعم إيران بأنّها حقّقت انتصاراً على أمريكا والقوى الكبرى بتوقيعها الاتفاق فهو زعم لا يستند إلى أي أساس، وتُفنده هذه البنود الصريحة التي استعرضناها، والتي قضت من ناحية عملية على أي أمل لإيران بأن تكون دولة نووية في مستقبل الأيام.
وأمّا ادّعاؤها بأنّها حققت مكاسب اقتصادية من خلال إفراج أمريكا عن سبعة مليارات من الدولارات من الأرصدة الإيرانية المجمدة، وسمحت بتدفق الشركات الغربية للاستثمار في إيران، ورفع العقوبات الدولية عن الشركات الإيرانية فكل ذلك ثمن بخس لا يُبرر تعطيل برنامجها النووي المتطور، وفقدانها للقدرات النووية المتميزة التي امتلكتها بعد صبر ومثابرة وعناء.
على أنّ تحسين اقتصادها سوف يكون محدوداً جداً ولا يجعل من إيران دولة متفوقة أبداً، بل إنّ هذا التحسن سيعود معظم مردوده على الدول والشركات الغربية أكثر ممّا يعود على إيران نفسها، لأنّه إنّما يصب في خدمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي والشركات العالمية العابرة للحدود، وسوف تجعل الاستثمارات الغربية من إيران سوقاً جديدة لاقتصاد السوق وقوى العولمة التي تُهيمن على نشاطاتها أمريكا وأوروبا.
وحتى ذلك التحسن الطفيف في الاقتصاد الإيراني الذي ستشعر به إيران فسيستثمر في تأجيج الحروب الطائفية في المنطقة، وإطالة عمر الأنظمة الطاغوتية كنظام بشار، وزيادة سفك المزيد من دماء المسلمين، وتحويل سوريا والعراق واليمن إلى بلدان خربة مدمرة يسهل تمزيقها وشطرها إلى مِزق وأشلاء، تُحقق الأجندة الأمريكية المشبوهة، وتُساهم في خلق كيانات طائفية مسخ تخضع جميعها للنفوذ الأمريكي.
فأمل إيران في أن تتحول إلى شرطي للخليج أو بمعنى أصح في أن تكون عصا أمريكا الغليظة في المنطقة يريح أمريكا من كثير من الأعباء والمهمات القذرة التي تقوم بها حالياً فيها، وهذا يجعل أمريكا تتفرغ أكثر نحو شرق آسيا لمواجهة تعاظم قوة الصين فيها، كما ويمنحها سابقة ونموذجاً تتصدى بهما للمشروع النووي الكوري الشمالي الأكثر إزعاجاً.
والخلاصة أنّ إيران بهذا الاتفاق قد خسرت مكانتها وقوتها الإقليمية والذي كان برنامجها النووي بمثابة الغزْل القوي الذي يُشكّل عصبها ومصدر عنفوانها، فنقضته وجعلته أنكاثا، وتحولت إلى مجرد دولة وظيفية تقوم بالمهمات الطائفية القذرة التي تُحقق الأهداف الاستعمارية الأمريكية.
رأيك في الموضوع