يعد يوم 07 من تشرين الأول/أكتوبر 2023م حدثاً استثنائياً في حياة العالم بأسره. ففي هذا الوقت تدور حروبٌ كثيرة بعضها لسنوات، منها في سوريا والعراق واليمن والسودان وفي أوكرانيا، ولم يتفاعل العالم معها، مثلما تفاعل العالم مع ما يدور على أرض غزة بفلسطين.
كان مخطط القوى المسيطرة على المشهد العالمي أن تُطْفَأ أحداث هذه المنطقة، وتكون قد نجحت بما قامت به من أعمال سياسية على مدى قرن كامل في إتمام غرس جسم غريب عن الشرق الأوسط، ورفعت شعار "سلام دائم"، وقد هيأت عددا من أنظمة الحكم في الشرق الأوسط للقبول بـكيان يهود في المنطقة، والتطبيع معه، وماذا عسى أن تفعل شعوب الغرب الأوروبي والأمريكي سوى المباركة لما يعدونه سلاماً عالمياً؟!
حين فشل الساسة الغربيون الأوروبيون عبر الحروب الصليبية لـ300 سنة في انتزاع فلسطين وسيطرتهم عليها، ذهبوا لبناء حاجز دعائي إعلامي، يمنع شعوبهم من معرفة ما يدور في فلسطين - منذ تخطيطهم في مؤتمر كامبل 1907م لغرس جسم غريب فيها يقسم الشرق الأوسط إلى قسمين، وحتى وضعهم في 1947م قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة بين أهلها ومغتصبيها الذين جُلِبُوا إليها - ورعايتهم لاتفاق كامب ديفيد 1978م، واتفاق أوسلو في 1993م، ووادي عربة في 1994م، وخطوات التطبيع الجارية الآن، إلَّا أن هذا الحاجز انهار بمجرد انطلاق عملية طوفان الأقصى بغزة، وصمود أهلها، وتمكن مجاهديها من الوصول إلى وسائل التواصل الإلكتروني ونقل ما يدور على أرض غزة بعيداً عن وسائل الإعلام الغربية التي حجبت ما يقوم به كيان يهود من وحشية القتل والتدمير والتهجير والتشريد والتجويع الممنهج، في ظل صمت مطبق ممن رعوا إقامة كيان يهود؛ بريطانيا التي أعطت وعد بلفور ومعها أوروبا التي ساندتها، وأمريكا التي تشاطرهم رعاية وحماية مولودهم المسخ.
اشتعلت الأوساط الطلابية في الجامعات الأمريكية، فشهدت انطلاقة المظاهرات الطلابية من جامعة كولومبيا في مانهاتن بالعاصمة واشنطن ثم انفرط العقد لتتبعها جامعات جورج واشنطن وجورج تاون في واشنطن وجامعات نيويورك وييل وهارفارد وكارولاينا الشمالية وأريزونا وإيموري بولاية جورجيا وإنديانا وكونيتيكت وبنسلفانيا وميشيغان وبرينستون وأوهايو وكاليفورنيا... ليصل العدد إلى 75 جامعة. ويتردد صداها في الجامعات الأوروبية في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وإيرلندا وفرنسا والدنمارك والنرويج وإسبانيا وبلجيكا وكندا واسكتلندا وأستراليا والبرازيل... ليتم اعتقال طلاب وأساتذة وصحفيين. وهذا يعني أن هناك تغييرا عميقا يجتاح فئة الشباب في العالم الغربي. حيث قال مراقبون إن موجة الاحتجاجات الطلابية تسلط الضوء على أن العديد من الشباب الأمريكي غير راضين عن سياسة الرئيس جو بايدن تجاه كيان يهود.
إن أمريكا وأوروبا مجتمعة يحسبون كل الحساب بعد أن تم تجاوز إعلامهم الرسمي، لما بعد ما يدور في غزة، ويخشون من فعالية الشباب والطلاب في جامعاتهم، من قيام الطلاب - صفوة المجتمع - بما يعرقل أعمالهم السياسية، ولا ينسجم مع مخططاتهم، ونجاح الطلاب في فهم ما يدور في غزة وفلسطين، ما حدا بهم إلى ترهيب الطلاب وأساتذتهم الذين ساندوهم والقيام بالاعتقالات. وهو ما يعيد إلى الصورة الحركة الاحتجاجية التي قادها شباب من الجامعات الأمريكية ضد الحرب على فيتنام، وأجبرت أمريكا على سحب الجيش الأمريكي من فيتنام.
لقد أدرك طلاب الجامعات بوضوح تام أن ما يقوم به كيان يهود ليس حرباً ضد من يقاتلونه، وإنما هي عملية إبادة جماعية بدليل قصف وتدمير أحياء سكنية بكاملها، ومدارس ومستشفيات ومعامل، وقتل وجرح عمال الإسعاف والإغاثة وقطع الكهرباء والماء والغذاء عن كل سكان غزة. حينها أصدر الطلاب في جامعة كولومبيا بيانهم الذي قالوا فيه: "نطالب بسماع أصواتنا الرافضة لأعمال القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة. جامعتنا متواطئة في هذا العنف وهذا سبب احتجاجنا". وليس كما قال الإعلام الرسمي الأمريكي بأن الطلاب رفعوا شعارات معادية للسامية!
لقد غَيَّر الطلاب في الجامعات حول العالم وجهة النظر حول ما يدور في غزة، ورفعوا أصواتهم بصفتهم دافعي ضرائب، لإيقاف تصدير السلاح إلى من أبعد أخلاقيات الحروب، وارتكب المجازر وقتل الشيخ والطفل والمرأة دون رحمة ودون تمييز! ونادوا بقطع علاقات جامعاتهم مع جامعات كيان يهود وإيقاف جميع التعاملات معها، ووقف الاستثمارات مع الشركات التي تدعم هذا الكيان.
بفضل طوفان الأقصى وصمود أهل غزة الأسطوري فإن أجيال الشباب سيحفرون في ذاكرتهم الصورة الحقيقية الماثلة أمام أعينهم لكيان يهود المخالفة للصورة النمطية التي يرويها الإعلام الرسمي الغربي الأوروبي والأمريكي. فطوفان الأقصى يعتبر الضربة الثانية التي تصدم قلعة الرأسمالية بشدة لتكشف لشعوبها ما يخفيه عنهم إعلامهم الرسمي، ومدى التزييف الذي تمارسه في تشويه الإسلام ونعته بالإرهاب، بغية صرفها عنه وتجعلها تزيح تلقائياً الأستار التي تحول بينها وبين التعرف على الإسلام.
مع نجاح غزة في إيصال الصورة والصوت لشباب الجامعات الغربية، فقد جاء الإسلام من الوهلة الأولى بالتعامل الحسن مع أهل الكتب السماوية التي سبقته فوجه لهم الله الخطاب عبر نبيه ﷺ حيث قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾ وقد أسلم لله من أهل الكتاب من أسلم. وقد أثنى الله على النصارى بابتعادهم عن الكبر، حيث قال: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ وهم بذلك يكونون قد اتبعوا عيسى ابن مريم عليه السلام الذي أخبرنا الله عز وجل بأنه قال للنصارى في حياته ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
إن دعوة المسلمين لأهل الكتاب للدخول في الإسلام تتوافق مع آيات التنزيل في القرآن الكريم، إذ يأخذ الله من النبيين ميثاقاً بأن يؤمنوا وينصروا خاتم النبيين محمداً ﷺ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾. وقد جعل الله الخير لمن يدخل في الإسلام ويلحقوا بمن سبقوهم في الدخول إليه. خصوصاً أن الله سبحانه وتعالى يتساوى عنده المسلمون السابقون مع من لحق بهم في الدخول في الإسلام، بل قد يفوق الترحيب بالداخلين الجدد حيث قال عز من قائل: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾. فهنيئاً لمن دخلوا في دين الله، وتكتمل فرحتنا يوم يكون للإسلام دولة تحكم بالإسلام وتقيم العدل على الأرض؛ دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع