أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الجمعة، 31 أيار/مايو 2024، تفاصيل مقترح جديد من كيان يهود بشأن الهدنة المنتظرة في قطاع غزة، في خطاب رئيسي له بالبيت الأبيض بشأن حل النزاع المستمر منذ 8 أشهر، فقال: "إليكم ما يتضمنه (الاقتراح)، وقف كامل وتام لإطلاق النار، انسحاب القوات (الإسرائيلية) من جميع المناطق المأهولة بالسكان في غزة، والإفراج عن عدد من المحتجزين بمن فيهم النساء والمسنون والجرحى، وفي المقابل إطلاق سراح مئات من المساجين الفلسطينيين". ومنذ ذلك اليوم والقضية تشهد تحركات وتطورات متسارعة تتعلق بالسعي للوصول إلى صفقة تبادل.
واللافت أن إعلان المقترح جاء من الرئيس الأمريكي بايدن، في حين وصفه بأنه مقترح (إسرائيلي)، بدلا من أن يأتي من رئيس وزراء يهود، لو كان بايدن صادقا في زعمه، ولهذا التصرف بالطبع قراءة في ظل أن يهود أنفسهم تلقوا المقترح بالتشكيك واحتمالية الرفض.
والحقيقة أن هناك الكثير من الأحداث والتحركات التي سبقت هذا الإعلان وتزامنت معه وتلته، بحيث يمكن من خلال قراءتها الوصول إلى رؤية لما يحدث.
فمن الأمور التي سبقت إعلان بايدن المقترح تهديد الوزير في مجلس الحرب في كيان يهود، بيني غانتس، بالانسحاب من حكومة الطوارئ بحلول الثامن من حزيران ما لم يتبن نتنياهو خطة لما بعد الحرب، وهي النقطة ذاتها محل الخلاف الأكبر بين الإدارة الأمريكية وبنيامين نتنياهو، وهي الثمرة التي تريد أمريكا حصادها بعد ثمانية أشهر من الحرب والطحن والإجرام بحق غزة وأهلها. فكعادة أمريكا في حروبها، إذ تمضي عشرين عاما في قتل وحرق وتدمير العراق وأفغانستان وتتوج ذلك باتفاق وترتيبات خروج تترك فيه البلد مستعمَرة رهينة لها ولمشاريعها. وهذا ما تريده أمريكا من الحرب الوحشية على قطاع غزة، فهي قد دفعت منذ البداية للدخول البري وأمدت كيان يهود بكل ما يحتاجه من سلاح وغطاء وتحالفات وشرعية ليسحق غزة ومجاهديها وينهي حكم حماس، والآن وقد جاء وقت الحصاد أو اقترب بدأت بترتيب الأمور ودفع الأطراف دفعا نحو ما تريده من ترتيبات ما بعد الحرب، والذي ترى أنه يجب أن يتمثل في عدم بقاء احتلال يهود لغزة أو تهجير أهلها أو تغيير حدودها، بل ترتيبات تناسب حل الدولتين المستقبلي ولو بعد حين. وهذا ما يفسر دفع رجل أمريكا، غانتس، لبنيامين نتنياهو دفعا نحو الإعلان عما بعد الحرب بعد أن شارفت الحرب على الانتهاء، حتى إذا ما أصر نتنياهو على موقفه الرافض لرؤية أمريكا لما بعد الحرب، كان لدى أمريكا الوقت الكافي للضغط على نتنياهو وحكومته واستنزافه فيما تبقى من غزة لإجباره على السير وفق الرؤية الأمريكية للمنطقة. أو يكون الخيار الثاني هو أن يوافق نتنياهو من الآن على رؤية أمريكا فتذلل له الصعوبات وتنهي الحرب على النحو الذي أرادته.
ومن أجل الوصول إلى ذلك، نرى أن أمريكا تستعمل مع نتنياهو سياسة العصا والجزرة، فما قدمته أمريكا ليهود من تعاون ومعلومات ومشاركة فعلية في مجزرة مخيم النصيرات التي راح ضحيتها قرابة 300 شهيد و700 جريح من أجل إنقاذ أربعة محتجزين، هو بمثابة جزرة قدمتها أمريكا لبنيامين نتنياهو، ليلمس أهمية التعاون والتوافق مع الإدارة الأمريكية، فهي من وفرت له المعلومات الاستخباراتية التي مكنته من الوصول إلى المحتجزين، وهي من سهلت له العملية، حتى إن الأنباء ترددت بأن الشاحنة المدنية التي استخدمت في العملية للتمويه والوصول إلى مكان المحتجزين قد خرجت من الميناء العائم.
وكذلك وجهت له دعوة ليلقي خطاباً أمام الكونغرس الأمريكي بمجلسيه، في 24 تموز/يوليو، بحسب ما أعلن زعيما الحزب الجمهوري في مجلسَي النواب والشيوخ، الخميس. وقال رئيس مجلس النواب مايك جونسون، وزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، في بيان، إن زيارة نتنياهو "ترمز إلى العلاقة الدائمة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل)، وستوفر لنتنياهو الفرصة لمشاركة رؤية الحكومة (الإسرائيلية) للدفاع عن ديمقراطيتها ومكافحة الإرهاب وإرساء سلام عادل ودائم في المنطقة".
وفي مقابل الجزرة تستعمل معه العصا، فإعلان غانتس الانسحاب من حكومة الطوارئ وتهديدات المعارضة بالعمل على حل الحكومة وتشكيل حكومة بديلة وتصاعد المظاهرات والتصريحات المهاجمة لسياسة نتنياهو والمطالبة بإبرام الصفقة، هي من الأمور التي تغذيها أمريكا للضغط على نتنياهو داخليا.
وكذلك تصاعد الحرب في الشمال من حزب إيران وازدياد سخونتها إلى درجة باتت تحرج نتنياهو وحكومته وتفضح عجزه عن خوض حرب في الشمال، بل إن أمريكا حذرت نتنياهو من توسيع الحرب مع حزب إيران خشية من إيران وتدخلها عبر الوسطاء والمقاتلين الموالين لها في العراق وسوريا واليمن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عمليات الحوثيين وعودة المقاومة الإسلامية في العراق إلى المشاركة في بعض العمليات، كل ذلك يشكل ضغطا عسكريا وخارجيا على نتنياهو وحلفائه الرافضين للصفقة، فقد أكدت أمريكا بأن السبيل لتهدئة جبهة الشمال هي من خلال إنهاء الحرب في غزة وهو الكلام نفسه الذي يردده حزب إيران.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الضغوطات التي تسمح بها أو تمارسها الإدارة الأمريكية عبر المؤسسات الدولية والإنسانية والحقوقية، فقد أبلغت الأمم المتّحدة كيان يهود بأنّها ستُدرِج جيشه في "قائمة العار" المتعلّقة بعدم احترام حقوق الأطفال في النزاعات. وكذلك قالت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد إنه "تم تعميم مسودة جديدة لمشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يدعم الاقتراح المطروح على الطاولة حاليا لإنهاء الحرب في قطاع غزة بواسطة وقف إطلاق النار والإفراج عن المخطوفين". وأضافت غرينفيلد أن الولايات المتحدة "تريد من مجلس الأمن الدولي أن يتبنى مشروع القرار الذي قدمه الرئيس الأمريكي جو بايدن لإنهاء القتال بين (إسرائيل) وحركة حماس في قطاع غزة".
وبذلك تمارس أمريكا سياسة العصا والجزرة مع نتنياهو لدفعه نحو الموافقة على الصفقة المقترحة لا سيما أن إدارة بايدن معنية بعدم إطالة الحرب أكثر مما طالت نظرا لقرب الانتخابات الأمريكية وحاجته إلى الأصوات والتفرغ للعملية الانتخابية، ولكن ذلك لا يعتبر مصيريا لدى الإدارة الأمريكية، فهي على استعداد لممارسة الضغط لدرجة معينة لا أكثر، لأن الضغط الكبير له مخاطره وسلبياته العكسية على بايدن وحملته الانتخابية بحكم المشهد اليهودي المعقد في الداخل الأمريكي، واللوبي الصهيوني وقدرته على التأثير في الناخب الأمريكي، وخاصة أيضا أن الذي يجمعهم جميعا، الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني وبنيامين نتنياهو، هو الحرص على كيان يهود والمحافظة عليه في كل الظروف. وهذا ما يتيح لنتنياهو المجال للمراوغة وعدم القبول لأنه يعلم أن أمريكا ستبقى الأب الراعي والأم الحنون للكيان الغاصب وأنها لن تضحي بالكيان بسبب عناد نتنياهو أو غيره.
وعلى الجانب الآخر، تمارس أمريكا الضغوطات الكبيرة واللامتناهية على حركة حماس لتجبرها على القبول بالصفقة حتى ولو كانت فيها نهاية الحركة، فهي تمارس ضغوطا عليها من خلال قطر ومصر وتركيا، وصلت إلى التهديد بطرد القيادات واعتقالهم في حال لم يوافقوا على الصفقة، وكذلك فإن مشاركة أمريكا في مجزرة النصيرات أرادتها أمريكا أن تكون رسالة لحركة حماس والمجاهدين بأن مسألة تحرير المحتجزين الذين تتمسك بهم ممكنة بدون الصفقة إن تعنتت الحركة والمجاهدون.
وكذلك سماح أمريكا ليهود بمواصلة الحرب والمجازر في رفح، والسماح ليهود باحتلال محور فيلادلفيا بالكامل، وإطباق الخناق على رفح وما تبقى منها، في ظل الحديث عن الصفقة وانتهاء الحرب، كل ذلك حتى يكون رد قادة حماس والفصائل تحت وطأة الضغط ونيران الحرب.
وهكذا يتكالب الغرب الصليبي وكيان يهود على أهلنا في غزة؛ مجازر ووحشية ومؤامرات وصفقات، مستغلين في ذلك صمت العالم، وتواطؤ الحكام المجرمين، وتخاذل الجيوش وأهل القوة عن نصرة إخوانهم المستضعفين، تاركين هذا البلد المبارك وأهله الأبطال بين مخالب الوحوش ينهشون بهم صبح مساء، في مشهد أنطق الجماد وأبكى الصخور، فمتى يا أمة الإسلام ستتحركين لوقف نزيف وإبادة غزة وما تبقى منها؟!
فما من سبيل لوقف شلال الدم وأكوام الأشلاء إلا بتحرك جيوش الأمة، أحدها أو بعضها، لتنصر غزة وتحرر فلسطين والمسجد الأقصى، وتنهي مأساة فلسطين وأهلها. ولن ينصف غزة وأهلها مبادرات وصفقات ما خطها الكافر المستعمر إلا ليثبت أركانه في هذه الأرض المباركة.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع