لقد اعتادت بعض الأحزاب السياسية على الانقلابات العسكرية للوصول إلى السلطة والتشبث بها منذ العصر الأموي إلى يومنا هذا. والحوثيون هم أحد تلك النماذج فهم قد وصلوا إلى الحكم بالانقلاب العسكري والثورة المسلحة، وهم يتقمصون شخصية الدولة المستقلة المحاربة للكفار وعملائهم، ويتدثرون بمحاربة الفساد ودول الاستكبار والاستعمار، وبمحور المقاومة والتظاهر بوقوفهم مع غزة في حربهم ليهود الغاصبين لفلسطين، ويحشدون عشرات الآلاف كل جمعة منذ اندلاع طوفان الأقصى، كما قاموا منذ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2023م بمحاصرة السفن الأوروبية المتجهة إلى كيان يهود لتزويده بالتموينات الاقتصادية والحربية لاستمرار حربه على غزة، وقد أعلنوا أنهم لن يتوقفوا عن مهاجمة تلك السفن حتى يتم توقيف الحرب على غزة، وقد كان ذلك ذريعة لوجود أمريكا في البحر الأحمر وإنشاء حلف الازدهار الذي أعقبته الضربات العسكرية الأمريكية والبريطانية على أكثر من 70 موقعاً للحوثيين في ليلة الجمعة الموافق 13/12/2023م واليوم التالي له.
فهل سيدخل الحوثيون في حرب مع أمريكا قد تكون لها نتائج كارثية على اليمن وأهلها، أم أن ما يحدث لا يزيد عن تمثيلية متقنة الأدوار محسومة النتائج؟ ولمعرفة ذلك لا بد من العودة إلى الوراء لمعرفة الأسباب والحيثيات التي تولدت منها أعمال الحوثيين في البحر الأحمر والضربات الأمريكية البريطانية التي تلتها للمواقع الحوثية في صنعاء والحديدة وتعز وصعدة وحجة وغيرها من المدن في اليمن.
إن الصراع بين أمريكا وبريطانيا لا يكاد يتوقف منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق سيئ الذكر أيزنهاور مشروعه المشئوم المعروف بملء الفراغ في بداية خمسينات القرن العشرين والذي ينص على إخراج بريطانيا من مستعمراتها القديمة لتحل أمريكا فيها، والصراع في اليمن هو جزء من ذلك الصراع؛ فقد احتلت بريطانيا عدن عام 1839م ثم سيطرت على جنوب اليمن ولم تلبث إلا قليلا حتى امتد نفوذها إلى شمال اليمن وأصبحت اليمن كلها تحت نفوذها أكثر من 30 عاما، وكان البحر الأحمر تحت سيطرتها أو لها اليد الطولى فيه، وبعد أن فقدت شمال اليمن بعد سيطرة الحوثيين عليه بعد عاصفة الحزم وبعد أن نجحت أمريكا في إخراجها من الحديدة باتفاقية ستوكهولم، تشبثت بريطانيا بالجنوب وكثفت وجودها العسكري في جزيرة ميون في البحر الأحمر عن طريق عملائها في الإمارات. وقد سعت أمريكا منذ السبعينات للسيطرة على البحر الأحمر وطرد نفوذ بريطانيا منه، فقد دعا عميلها إبراهيم محمد الحمدي في آذار/مارس 1977م إلى مؤتمر أمن البحر الأحمر في مدينة تعز وقد حضره جعفر النميري رئيس السودان ومحمد سياد بري رئيس الصومال وكذلك سالم ربيع علي رئيس اليمن الجنوبي وممثل عن الرياض التي لم تكن يومها أمريكية بل كانت يومئذ المديرة لإبقاء البحر الأحمر تحت سيطرة بريطانيا، وكان رد بريطانيا عنيفا فقد اغتالت إبراهيم الحمدي في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، كما تم اغتيال سالم ربيع في شهر حزيران/يونيو من العام التالي 1978م؛ لترسل رسالة لعملاء أمريكا مفادها أن مصير من يسعى إلى أخذ البحر الأحمر منها هو الموت. وقد تجددت الدعوة في الأعوام الماضية لعقد مؤتمرات حول أمن البحر الأحمر في الرياض وعمان وصنعاء، وكانت الرياض هي السباقة للدعوة لذلك، وقد جاء مؤتمرها خدمة لأمريكا لأن النفوذ فيها اليوم لأمريكا منذ وصول سلمان إلى السلطة، أما مؤتمر عمان فقد جاء خدمة لبريطانيا وردا على مؤتمر الرياض، كما عقد مؤتمر في صنعاء في مطلع العام 2023م بعد الوجود العسكري الكثيف للإمارات في جزيرة ميون في شهر شباط/فبراير عام 2022م.
وقد تباينت ردود الفعل بين أمريكا وبريطانيا حول أعمال الحوثيين في البحر الأحمر؛ فبريطانيا تدعو عبر تصريحات ساستها إلى التصدي بقوة وإصرار لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر على السفن وتهديدهم للملاحة العالمية، وقد سعت إلى شن ضربات موجعة للحوثيين، إلا أن دخول أمريكا معها في غرفة عمليات مشتركة حال دون ذلك. أما أمريكا فقد كان موقفها تجاه أعمال الحوثيين في البحر الأحمر هو التلميع لهم لدى الرأي العام العالمي وإظهارهم في صورة الأبطال، فقد أصدر معهد كونيسي الأمريكي في 26 كانون الأول/ديسمبر 2023م تقريراً يمتدح أعمالهم ويصفهم بأنهم:
1- سادة الحرب غير المتكافئة
2- قد نجحوا في تحقيق أهدافهم ومنها فرض التكاليف على كيان يهود وحلفائه
3- يمتلكون حتى الآن اليد العليا في مباراة ملاكمة الظل مع الولايات المتحدة
4- استنادهم إلى الدعم والإشادة من البلاد والشعوب الإسلامية الأخرى لوقوفهم إلى جانب الفلسطينيين في غزة
5- يمتلكون القوة العسكرية من الطائرات المسيرة والصواريخ بعيدة المدى وأعداداً كبيرة من الألغام البحرية ومنها الألغام النفوذية التي يصعب اكتشافها.
وهذا رفع شعبيتهم ودفع الناس للخروج معهم إلى الساحات حتى اكتظت بمئات الآلاف نصرة لغزة كما يتشدق بذلك الحوثيون، وتفويض عبد الملك الحوثي بالخيارات التي يراها حتى ولو كان في ذلك بيع فلسطين وتصفية قضيتها عبر المشروع الأمريكي "حل الدولتين" ليحقق اليهود ما عجزوا عنه في الحرب بالمفاوضات.
إن حقيقة أعمال الحوثيين في البحر الأحمر ليست إلا تنفيذاً لمخطط أمريكا الذي يهدف إلى السيطرة على البحر الأحمر وإخراج بريطانيا منه أو جعله بؤرة توتر، وإشعال حرب طائفية بغيضة لها نتائج كارثية على المسلمين، وذلك عن طريق إشراك إيران فيها وهي التي تحلم بالسيطرة على العرب وإعادة إمبراطورتيها الفارسية إلى الوجود.
إن عمالة الحوثيين وتبعيتهم لأمريكا واضحة لكل ذي عينين، فهم يحكمون أهل اليمن بنظام جمهوري علماني فاسد، وهم ينشرون مفاهيم حضارتها ويحرسون مصالحها ومنظماتها التي تنشر المفاسد والشرور ومفاهيم الحضارة الغربية الفاسدة، وهم ينفذون مخططاتها الرامية إلى تمزيق المسلمين وتفتيتهم وإيجاد الأحقاد والضغائن الدائمة بينهم، وهم الذين لا يحركون ساكناً أمام ظهور التيارات التراثية التي تدعو إلى الانسلاخ من الإسلام وتأييد دعوات الجاهلية واتباع الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في عصر الرسالة وحارب الإسلام وحارب المسلمين وقاتلهم لترك الإسلام واتباع دعوته الزائفة، وها هو مجلس الأقيال يسعى إلى إحياء تلك المفاهيم الكفرية تحت سمع وبصر الحوثيين، وغيره من الذين تمادوا في نشر مفاهيم الكفر كالبهائية وغيرها... وفي المقابل لا يتوانى الحوثيون في حرب الإسلام السياسي والعاملين لإقامة الدولة الإسلامية؛ الخلافة الراشدة التي تحكم بالإسلام وتطبقه في جميع شؤون الحياة والدولة والمجتمع وتحمله رسالة نور وهدى للعالم كله، وهي التي تعيد البحار والأنهار إسلامية خالصة، وهي التي تحرك جيوشها لقتال يهود وتحرر فلسطين وأخواتها وتعيد نهضة المسلمين من جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ حاشد قاسم – ولاية اليمن
رأيك في الموضوع