تُعرَّف الحضارة بأنها مجموعة المفاهيم والأفكار التي تعتنقها أمة من الأمم بحيث تسعى إلى جعلها بضاعة عالمية يأخذ بها الناس دون إكراه أو إلجاء، وبقدر ما تكون هذه الحضارة بما فيها من مفاهيم وأفكار صالحة لرعاية الشؤون، بقدر ما يكثر عدد من يحملها ويدافع عنها ويسعى لبثها بين الناس. وقد حكمت الناس منذ القديم حضارات وحضارات، اندثر منها الكثير حتى لم يعد الناس يتذكرون إلا أسماءها، فأين الحضارة الرومانية أو الفارسية أو اليونانية؟ بل وأين الحضارة الاشتراكية المسماة الشيوعية؟ ولم يبق الآن في العالم إلا حضارتان؛ حضارة لها دولة أو دول تحملها وهي الرأسمالية، وحضارة بقيت في أذهان ووجدان أهلها وليس لها دولة وهي الحضارة الإسلامية، وقد بقيت حضارة المسلمين تمثلها دولة حتى أوائل القرن العشرين.
إن وجود كيان سياسي يحمي حضارة أية أمة من الأمم هو عامل رئيس في بقائها ودوامها، بل إن الدولة لا يُتصور أن تقوى حضارتها وتنتشر إلى غيرها من الأمم والشعوب إلا بكيان ودولة، لذلك نجد أن هناك تناسبا طردياً بين قوة الدولة وقوة الفكرة التي تحملها ومدى انتشارها واتساعها، وهنا يجب أن نفهم أمراً مهماً حتى لا يختلط الأمر على القارئ الكريم، وهو الظن بأن القوة هي العامل الأهم في نشر المفاهيم والأفكار، فإن هذا الأمر على أهميته يُفسد الحضارات ويعجِّل في زوالها، ولعل زوال الشيوعية بالأمس القريب شاهد حي على ما نقول؛ فقد سعى البلاشفة بعد نجاحهم في الوصول للحكم إلى نشر المفاهيم والأفكار التي يتبنون بالحديد والنار، فمنعوا التدين بكافة أشكاله، بمعنى أنهم أرادوا بعد وصولهم للحكم أن يُصادروا أفكار الناس وقناعاتهم وعقائدهم، ولو أداهم ذلك إلى القتل، وكان هذا مؤذنا بزوال دولتهم وأفول حضارتهم، وقد شاهدنا كيف أن الناس بعد زوال الاتحاد السوفييتي عادت إلى تدينها والمفاهيم التي كانت تعتنقها قبل أن تفتن عن دينها وتجبر على التخلي عن المفاهيم والأفكار التي تعتنقها، ولعل السبب الأهم في فشل الشيوعية هو أنها أرادت إلغاء الخالق من حياة الناس تماما، بمعنى أنها أرادت تغيير فطرة الناس ووجدانهم، وهذا ما لا قِبل لأحد فيه إلا لمن خلق الفطرة وأوجد في الوجدان خاصية البحث عن الخالق.
إن أسباب انهيار الحضارات كثيرة ولعل على رأسها مرجعية هذه الحضارة بمعنى المصدر الذي انبثقت منه مفاهيم وأفكار هذه الحضارة، فبقدر موثوقية المصدر تكون القناعة بها أكبر؛ لذلك نجد الكثير من الحضارات جعلت الخالق مصدرا لها وإن كانت تنكره على الحقيقة، بمعنى أنها تركت للناس حرية العلاقة مع الخالق الذي تعتقد وجوده، فالحضارة الرومانية جعلت النصرانية والإنجيل هما الهاديين لإقناع الناس بالمفاهيم التي تحملها، لذلك كان عمرها الزمني أطول من الحضارات التي أنكرت الخالق بالكلية كالحضارة الاشتراكية ومنها الشيوعية، فالرأسمالية بالرغم من أنها تفصل الخالق تماما عن الحياة ولا تعتبره، إلا أنها لا تتنكر من كونها أمما نصرانية، فقد كانت عصبة الأمم مثالا لتجمعات ودول على أسس دينية، فالنصرانية هي التي شكلت عصبة الأمم على أساسها، وليس ذلك حباً أو قناعة بالإنجيل والكنيسة بل حتى تبتعد عن الدخول في حروب جانبية ممثلة بما يحمله الناس من عقائد وأديان. ولا زالت الفاتيكان والبابا يمثلان عند الغرب قيمة مهمة في الحياة، فقُدسية الأفكار تأتي دائما من قدسية المصدر.
أما عند المسلمين فإنهم طوال عمرهم لم يعرفوا الفصل بين حضارتهم والمصدر الذي انبثقت عنه، وقدسية حضارتهم أتت من تقديسهم للمصدر الذي انبثقت عنه وهو الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك لم تكن الأحكام والمفاهيم عندهم تتغير وتتبدل بحسب المصلحة، بل مصالحهم تبع للمفاهيم والأفكار لا العكس، لذلك صلُحت أفكارهم لتقود العالم بالإقناع والقبول، ولم يجبروا من لم يعتقدها على حملها مع أنهم كانوا يستطيعون ذلك بما امتلكوا من قوة مادية ومعنوية، لذلك ترى أن أهل الديانات الأخرى قد عاشوا في بلاد المسلمين قرونا وما زالوا، دون أن يفتنهم أحد عن دينهم أو عقيدتهم بل بقيت كنسهم وكنائسهم في بلاد المسلمين شاهدا حيا على تركهم وما يعتقدون ويؤمنون، لكننا في المقابل نجد العالم الغربي قد ضاق ذرعا بقطعة قماش تضعها مسلمة على رأسها، واعتبر هذا تهديدا للقيم الغربية! بل إن المسلمين في بلد كالصين أو الهند يُفتنون عن دينهم ويُمنعون حتى من الصلاة أو الصيام!
إن العالم الرأسمالي قد بان لكل ذي بصر أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن البريق الذي كان يحيط بحضارته قد أفل وأنه عند أولى التجارب قد خلع ما تبقى له من قيم، وليست العراق والشام مثالا لشراسة هذه الحضارة، فها هي غزة تذبح وتدمر وأهلها يُشردون ويذبحون وأهل الحضارة الغربية والحريات يتواطؤون على قتلهم ويعينون على تدمير بيوتهم بإمداد الكيان اللقيط بكل أسباب القوة، مع أنهم يدمرون دولهم وكياناتهم على الجانب الآخر، وما نراه من مظاهرات في بلاد الغرب دليل على حالة الانفصام التي ضُربت بين الناس وبين الأنظمة التي تحكمهم، وقد أظهرت المظاهرات الأخيرة في بلاد الغرب عمق الأزمة القيمية بين عامة الناس والأنظمة الحاكمة، فالرأسمالية تدثرت بالديمقراطية وحقوق الطفل والمرأة وحرية الرأي وهذه المصطلحات الجذابة... ولكن حرب غزة كشفت أن هذه الشعارات كانت زائفة وكاذبة، يريدون من ورائها إطالة عمر أنظمتهم.
إن الدولة الإسلامية دامت لأكثر من ثلاثة عشر قرنا وحضارتها ملأت الدنيا شرقا وغربا والأفكار التي كانت تحملها في الاقتصاد والسياسة ونظام الحكم كانت مرجعيتها واحدة وليست مرتجلة كما هي عند الغرب، وإن المفاهيم والأفكار التي حملتها مصدرها الخالق سبحانه وتعالى فلم تكن تعاني من أزمة تشريعية أو أخلاقية، ولم تكن تحتاج لقانون معدل لقانون كما في الأنظمة التي تشرّع لنفسها، ولأن قدسية القانون نابعة من مصدره فإن الرعاية عند المسلمين كان يغلب عليها الجانب التعبدي؛ فالدولة في الإسلام لا تسمح بالربا أو تمنعه لكونه يدمر الاقتصاد أو ينشط الأسواق بل لأنه حرام، وهي لا تجعل السياحة مصدرا لبيت المال إن كان المقصود منها نشر الرذيلة والفاحشة، وقل مثل ذلك في التجارة والصناعة والفتوحات، ولعل هذا الثبات في الأحكام والثقة بمصدرها ومرجعها هو الذي جعل الناس ينزلون تحت الأحكام والأفكار بقناعة تعبدية، وهذا ما جعل الحضارة الإسلامية تهيمن على كل الحضارات في الدنيا ويدخل الناس في عقيدة الفاتحين في أقل من خمس عشرة سنة.
ويبقى السؤال الذي كان فاتحة لهذه العجالة: هل عاد الإسلام بعقيدته وأفكاره وأحكامه ضرورة حيوية فوق كونه واجبا شرعيا للسير بالكرة الأرضية فيما بقي لها من عمر؟ والجواب بالقطع هو نعم، بل إن أي حضارة الآن لا تصمد أمام ناسها وأهلها مع غياب البديل الحضاري وهو وجود دولة وكيان للمسلمين، فما بالك لو ظهر هذا البديل الحضاري وهو الإسلام؟ إن كون الإسلام عقيدة عقلية انبثقت عنها أنظمة وأحكام ومعالجات وبنيت عليها قوانين هو الذي أعطى هذه العقيدة الهيمنة على كل العقائد والأديان، فهو الوحيد الذي قادت عقيدته الدنيا باقتدار وقوة، وليس بقوة الجندي وصرامة القوانين، فقد كان الناس يتقربون إلى الله بتطبيق القانون عليهم وتنفيذ النظام العام حتى لو خالف مصالحهم.
إن حالة الثبات في الإسلام في عقيدته وفكرته وأحكامه جعلت المسلمين طاقات متفجرة في السياسة والجهاد والفتوحات والاقتصاد؛ بمعنى أن حالة الثبات هذه أعطت شيئا عظيماً من الاطمئنان لأصحابها، بل إن صاحب هذه العقيدة ليس مضطرا لاستهلاك عقله ووقته محاولا وضع القوانين التي يظن فيها الخير، لأن الخالق الذي يعتقد بوجوده قد أراحنا من هذه الوظيفة، وطلب فقط بعد الإيمان به سبحانه وتعالى من العبد التنفيذ، لذلك كانت إبداعات المسلمين لا حدود لها؛ ففي الوقت الذي كانت قرطبة تحتضن العشرات من الجامعات والمستشفيات كان الغرب لا يتقن نظافة جسمه وتطهير بدنه، والكل يعلم قصة الساعة التي ظن الجهال في الغرب أن الجن تسكنها!
وجماع القول إن الإسلام بعقيدته وأحكامه وثباتهما يجعل التفكير في الطوابق العليا من البناء لا في أسفله، أما الغرب المادي الذي لا يؤمن بالخالق المدبر فتراه يتعب نفسه ويجهد عقله ليضع القوانين والأنظمة التي يحاول بها إسعاد الناس مع أنه في الحقيقة يسير بهم من شقاء إلى شقاء ومن سيئ إلى أسوأ، وسيبقى الحال على هذا المنوال طالما ابتعد الناس عن دين الفطرة ورضوا أن يُشرع لهم من لا يفوقهم في فهم أو عقل. ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر
رأيك في الموضوع