نقلت سودان تريبيون أن وزارة المالية أعلنت الجمعة 30/12/2022م عن إيداع مشروع موازنة 2023 في مجلس الوزراء. ويتوقع أن تنخرط اللجان وقطاعات المجلس المتخصصة، طبقا لوكالة السودان للأنباء، في نقاشات حول الموازنة ومن ثم رفع تصوراتها توطئة للإجازة وفقا لجداول زمنية لم يفصح عنها. وكانت موازنة العام 2022 المجازة في العشرين من كانون الثاني/يناير العام الماضي، استهدفت طبقا لمسؤولي الوزارة، خفض معدلات التضخم وتحسين معاش الناس وضمان استقرار سعر صرف العملة المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية. ونجحت السياسات المالية في إحداث استقرار على مستوى سعر الصرف، وخفض التضخم إلى ما دون 100% لأول مرة منذ سنوات، لكن بموازاة ذلك تنامت الشكاوى من الأزمة المعيشية الخانقة التي يعاني منها معظم الأهالي. وعزا خبراء تراجع معدلات التضخم إلى حالة الكساد التي تضرب الأسواق وتعكس ملمحا لتهاوي القيمة الشرائية للعملة المحلية.
وقد نقلت سودان تريبيون في 10/12/2022 عن وزارة المالية، أن السودان قرر الاعتماد على الإيرادات التي تتمثل في الضرائب والرسوم الحكومية، وعائدات الذهب، والنفط، في موازنة 2023. وحصر المجتمع الدولي دعمه للخرطوم في الشؤون الإنسانية فقط، بعد أن علق مساعدات وقروضاً تبلغ مليارات الدولارات عقب الانقلاب العسكري في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وشمل التعليق عملية إعفاء نحو 50 مليار دولار من ديون البلاد. وقال وكيل وزارة المالية عبد الله إبراهيم في تصريح صحفي إن اعتماد موازنة العام القادم سيكون على الإيرادات الذاتية، ما يتطلب تحريك الموارد من الضرائب والجمارك والرسوم الإدارية وعوائد الذهب والنفط. وأشار إلى أن وزير المالية شكل لجنة لمراجعة الرواتب للعاملين في مؤسسات الدولة، مناديا باعتماد فهم جديد للموازنة في الإنفاق وتوسيع المظلة الضريبية. ومنذ 11/9 الماضي دخلت أسواق المدن الكبرى في سلسلة إغلاقات شاملة تستمر عدة أيام، رفضا لتقديرات أرباح الأعمال التي قال التجار عنها إنها ارتفعت بنسبة 600%. ويعيش السودان في أزمة اقتصادية متطاولة أصبح تأثيرها على السكان لا يطاق في ظل ضعف شبكات الحماية المجتمعية، وهو أمر جعل ما يزيد عن 14 مليوناً من السكان يعانون الجوع الشديد وفقا لتقارير الوكالات الأممية والمنظمات المسماة إنسانية.
وفي وقت سابق قال وزير المالية جبريل إبراهيم إن موازنة العام 2023 تم إقرارها بالاعتماد على الموارد الذاتية، لكنه حذر من تداعيات قاسية على الأوضاع الاقتصادية في ظل وقف الدعم الدولي، حيث توقع بروز مؤشرات انكماشية وتذبذب أسعار العملة نتيجة للتحكم الشديد في عرض النقود، الذي بدوره يؤدي إلى فقدان وظائف، وإغلاق المصانع والشركات، التي قد تؤدي إلى تعميق المشكلة الاقتصادية في البلاد.
يلاحظ من هذه الأخبار الشر المستطير الذي تفصح عنه حكومة البرهان، ومدى الضنك الذي تبشر به الناس، ولا غرو، عندما يتحكم في أمر المسلمين الحكم الوضعي وإملاءات صندوق النقد الدولي، التي ما طبقت في بلد إلا وأورثته البؤس والشقاء.
وتتبجح وزارة المالية بأن المساعدات الدولية تم إيقافها جراء الانقلاب، وهل هذه المساعدات تعود نفعا للأمة، وهي تقوم على الربا، والتدخل في الشأن الداخلي بفرض السياسات التي تقوم على هيمنة الكافر المستعمر على ديارنا تماما؟! فالدولة نفذت كل ما يطلبه صندوق النقد والمجتمع الدولي، بل لم تألُ جهدا في تنفيذ كل السياسات البشعة التي تتحاشاها الدول لكي لا ينهار حكمها.
وقد كانت الإملاءات واضحة وتطلب ما يلي: تحرير الأسعار، ورفع الدعم الحكومي عن سائر السلع والخدمات الأساسية، وتقليل الإنفاق الحكومي؛ كالإنفاق على الصحة والتعليم، وتخفيض سعر الجنيه بل تعويمه، وزيادة الضرائب، وتثبيت الأجور. وقد رفعت وزارة المالية الدعم الجزئي عن الدواء في العام الماضي 2022.
إن وزارة المالية عندما وضعت الموازنة في مجلس الوزراء لتجاز منها كقانون نافذ ومن ثم لتجاز إجازة أخيرة من المجلس السيادي، وذلك على غرار إجازة الموازنات في النظام الديمقراطي الرأسمالي، الذي يجيز الموازنات كقانون وضعي يفصل فيه الدين عن الدولة وبالتالي يفصله عن الحياة والمجتمع، وذلك بالرغم من أننا مسلمون ويجب أن نسير حياتنا بالإسلام وحده، فالمال أحكام شرعية لا يجوز تعديها ولا يجوز تشريعها بأحكام الكفر. قال رسول الله ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ» فالإيرادات والنفقات هي أحكام شرعية سيسألنا الله سبحانه عنها كسائر الأحكام الشرعية.
وقد بين وزير المالية في ظل التكتمات عن بنود المالية وفصولها أن الموازنة تقدر بـ5 تريليون جنيه سوداني وأن العجز يقدر بـ15% من مبلغ الموازنة.
إن الـ5 تريليونات تعني أن المبلغ المطلوب جمعه يقدر بـ8 مليار و600 مليون دولار، والعجز يقدر بحوالي مليار دولار و300 مليون، ما ينذر أن الدولة سوف تستدين من النظام المصرفي مبلغ 750 مليار جنيه غالبا ما يسدد بطباعة نقود مقابل هذا المبلغ. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى التضخم وفقدان القوة الشرائية للعملة.
وقد نشر البنك المركزي سياساته المالية للعام 2023 مشيرا إلى أنه يستهدف استقرار المستوى العام للأسعار والنزول بمعدل التضخم إلى 25% بنهاية العام، وذلك باستهداف نمو في القاعدة النقدية بمعدل 27%، ونمو في عرض النقود بمعدل 28% بنهاية عام 2023.
وقبل إجازة هذه الموازنة بدأت الزيادة في الجبايات المحرمة؛ فزادت بعض الضرائب والرسوم إلى 1000% وبعضها إلى 100%؛ فزادت رسوم الدوائر الحكومية والضرائب ورسوم العبور بنسب تتجاوز الـ100% وزادت الرسوم الدراسية قبل بداية هذا العام أضعافاً مضاعفة.
هذا يؤدي بلا ريب إلى الغلاء الفاحش الذي حذر منه الإسلام، وإلى الانكماش الذي يؤدي إلى الكساد وقلة الإنتاج العام بل إلى توقف النشاط الاقتصادي لدى قطاعات، ويؤدي كذلك إلى تفشي البطالة وقلة فرص العمل. ووزارة المالية تتحدث على لسان وزيرها أن هذا متوقع! فأي جرم هذا الذي يعلنون عنه ولا تهتز لهم شعرة، ولا يخفق لهم قلب أسىً على حال الناس أو خوفا من عذاب الله؟!
فهذه الموازنة وهذه السياسات محرمة حيث تغلي الأسعار وتوقف الإنتاج وتفقر الناس، بدلا من توفير الرخاء وتحفيز الإنتاج وإغناء الفقراء.
هذه السياسات تعتمد على الضرائب والرسوم المحرمة والربا وتدمير القوة الشرائية للنقود بطباعتها دون مسئولية، بدلا من أن تعتمد على الموارد الدائمية كالملكيات العامة وملكية الدولة كالخراج والفيء والمعادن العد وغيرها.
إن النظام الرأسمالي العلماني إن لم يتم اجتثاثه من ديارنا فلن نهنأ أبدا بعيش كريم. فلا المدنية ولا العسكرية يحتكمان إلى الإسلام بل هما من جنس العلمانية الكافرة.
أما الخلافة الراشدة على منهاج النبوة فهي التي ترعى الأمة بأحكام الإسلام، فتطبق النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يحرم أن يكون بيننا جائع أو محتاج.
نقطة أخيرة: ما يلاحظ من ضآلة هذه الموازنة التي تقدر بـ8.6 مليار دولار حيث نجد في فصولها خللين كبيرين؛ الأول أن بند الإيرادات تسيطر عليه الجبايات المحرمة، والخلل الثاني أن هذه النفقات لا ترقى لرعاية الأمة، فلو تم ضرب هذه الموازنة في 10 أضعاف قد لا تليق بما يجب أن تكون عليه الحياة وطريقتنا في العيش وفق الأحكام الشرعية، فشق الطرق والقنوات والقطار السريع وشبكة الملاحة الجوية والمشافي المجانية والتعليم المجاني بداخلياته والطعام المجاني للطلاب والإنفاق المباشر على الفقراء يفوق عشرات أضعاف هذه الموازنة الهزيلة والظالمة. واعتماد الموازنة على عملة سايكس بيكو على النقد الورقي الإلزامي جعلت الأسعار وكأنها في كف عفريت كما يقول المثل، بينما الإسلام جعل العملة الذهب والفضة اللتين لا مجال لطباعة ورق نائب عنهما دون غطاء، لا كما فعل المجتمع الدولي في 15/8/1971 بخصوص الدولار مقابل الذهب، حيث ألغى الاستعمار التعامل بالذهب.
إن كل هذه الحياة الكريمة المرجوة لن تكون إلا في ظل الخلافة التي يجب أن يعمل المسلمون لها وهي عائدة بإذن الله قريبا. نسأل الله أن نكون من جنودها الذين يتحقق النصر فيهم. والله المستعان.
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحمن تنديلي - ولاية السودان
رأيك في الموضوع