تصاعد الحديث عن تجديد الحراك الفرنسي لتحريك المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال اليهودي، حيث تتباحث فرنسا مع السلطة الفلسطينية ودول عربية للوصول إلى صيغة تقبلها الأطراف يتم طرحها على مجلس الأمن الدولي، وهذا المشروع الفرنسي المتجدد لا ينعزل عن سياق المشروع السابق الذي تم تقديمه إلى الأمم المتحدة تحت عنوان "مشروع القرار الفلسطيني - العربي"، ولكنه سقط عند التصويت في 30/12/2014. ومن ثم أجّلت فرنسا متابعة الحراك إلى ما بعد الانتخابات اليهودية.
وقبل تناول هذا المشروع من حيث المضمون والأفق السياسي والموقف منه، لا بد من ترسيخ ما يشبه المسلمة السياسية: وهي أن أمريكا فرضت على الحراك الدولي رؤيتها بحل الدولتين، وذلك منذ أن تشكّلت اللجنة الرباعية على أساس خارطة الطريق الأمريكية (2003م)، والتي تلقفتها أوروبا لمّا وجدت فيها فسحة للحراك. ولذلك فإن فهم أية مبادرة دولية "جديدة" مثل المشروع الفرنسي ينحصر ضمن سياق ذلك الحل الأمريكي.
إضافة لذلك، فثمة خمس نقاط مرجعية لفهم الحراك السياسي الدولي المتعلق بقضية فلسطين وهي:
- أمريكا تصر على الإمساك بأوراق الحل السياسي بيدها وحدها، فهي لا تسمح لتمرير حل أوروبي عبر الأمم المتحدة، ولذلك فلا يمكن تمرير أية مبادرة سياسية دون أن تكون يدها هي الطولى.
- لا ينفصل الحراك عن ملف النووي الإيراني: وهو يحظى بأولوية أمريكية حيث تريد أمريكا ترتيب ذلك الملف لتمكين إيران من القيام بالدور الإقليمي الذي أناطته بها كشرطي للمنطقة، بينما يستغلّه قادة اليهود للهروب للأمام من أية استحقاقات سياسية، وأيضا مع التقاء المصالح بين أوروبا ودولة اليهود في هذا الجانب يستفيدون منه أحيانا لتخفيف الضغط الأمريكي.
- تحاول دول أوروبية فاعلة استغلال بعض الأجواء السياسية للولوج إلى ساحة الحراك من باب إثبات الحضور العالمي ولكنها تدرك أن حراكها لا يجدي دون المباركة الأمريكية.
- هنالك تباين جوهري بين مضمون "حل الدولتين" وبين الرؤية الليكودية التوسعية الرافضة لانتقاص "السيادة" اليهودية على فلسطين، والتي تعززت بعد الانتخابات اليهودية، مع تشكّل حكومة نتنياهو الجديدة الأكثر تطرفا من سابقتها.
- خلال سنة الانتخابات الأمريكية التي تبدأ في تشرين الثاني القادم، تدخل أمريكا حالة البطة العرجاء، وما يشبه انعدام الوزن السياسي، فتكون سياستها الدولية قائمة على تعطيل الحراك حول ملف قضية فلسطين لا تفعيله.
صحيح أن بعض المراقبين يرى أن فرنسا تأمل هذه المرة في تجنّب "الفيتو" الأمريكي بسبب مشاعر الإحباط الأمريكية الناتجة عن سياسات نتنياهو وتصعيده الدبلوماسي ضد أوباما. ولكن لا يبدو أن ثمة تغيّراً في الموقف الأمريكي، وكانت البي بي سي قد نقلت في 20/3/2015 عن مسؤول أمريكي ضمن سياق تغطية هذا المشروع أن بلاده لا تريد المراهنة على قرارات افتراضية.
وهنالك تقارير إعلامية (فلسطين أون لاين 28/5/2015) تحدثت عن طلب أمريكا ودول أخرى بينها دول عربية، من الحكومة الفرنسية، عدم طرح مشروع القرار على الأقل إلى ما بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، المزمع في نهاية حزيران الجاري.
ويحاول المشروع ممارسة بعض الإغراء السياسي عبر اقتراح تحديد مهلة مدتها 18 شهرا، للتوصل إلى حل سياسي عبر المفاوضات، ولكن هذه المدة غير مجدية مع حالة البطة العرجاء الأمريكية.
أما حول مضمون المشروع الفرنسي المتجدد فهو هبوط عن مستوى المشروع السابق (الهابط أصلا): فهو يهدف إلى إيجاد مرجعية جديدة "للعملية السلمية"، تكون بديلة عن قرارات ما تسمّى "الشرعية الدولية" التي لا يوافق عليها الكيان اليهودي، وينص على "تبادل الأراضي والقدس عاصمة لدولتين"، ويسقط حق عودة اللاجئين بالحديث عن "حل عادل ومتوازن وواقعي" يرتكز على "آلية التعويض" (الجزيرة نت 20/5/2015).
أما في الجانب الأمني فثمة خطة لمراقبة فعالة للحدود "لمنع الأنشطة الإرهابية وإدخال الأسلحة"، وكانت جريدة الأنباء الإلكترونية قد كشفت في 22/4/2015 عن بنود المشروع كما أعلاه، ونصت أيضا على أن الترتيبات الأمنية تتم من خلال وجود طرف ثالث (مما يعني وجوداً عسكرياً - أمنياً دولياً).
ومن أجل إعطاء فرصة للمشروع أمام الرفض اليهودي وتعنت الرؤية الليكودية، ترسل فرنسا رسالة فيها مضمون ما يشبه "التهديد" السياسي، بأنه في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق في نهاية هذه الفترة "تعلن فرنسا أنها ستعترف رسميا بدولة فلسطين. وفي المقابل أغرت نتنياهو بتضمين المشروع الاعتراف "بيهودية الدولة" (حسب بعض المصادر).
ومع تصاعد الحديث الإعلامي عن وجود قنوات للحوار بين قادة اليهود وحركة حماس (مما يمكن لحماس أن تنفيه)، لا بد من توجيه نصيحة مخلصة لفصائل المقاومة بأن خارطة الطريق الأمريكية هي المرجع لكافة المبادرات السياسية الدولية، وهي تقوم على نقاط جوهرية لا تخرج عما تعتبره تلك الفصائل "خيانة"، لذلك جدير بها أن لا تتورط بأية قنوات أوروبية تستهدف فتح قنوات خلفية مع الكيان اليهودي.
إن خلاصة المشهد أن المشروع الفرنسي سيتعثر تحت وقع الرؤية الليكودية، مع الاستعلاء الأمريكي الذي لا يقبل بالحلول خارج الرؤية الأمريكية. أما من حيث الموقف، فيمثل المشروع دحرجة جديدة لقضية فلسطين في منحدرات التنازلات السياسية. ويجب أن تلتفت كافة القوى السياسية في فلسطين لخطورة ما تضمنه مشروع القرار من استجلاب قوات دولية تحت عنوان "الطرف الثالث" (وهو ما جاهر به رئيس السلطة سابقا)، مما يعني احتلالاً دولياً فوق الاحتلال اليهودي. وإنه من نافلة القول التذكير بأن فلسطين قد انتزعت بالقوة ولا ترد إلا بقوة الجهاد الذي يقتلع الاحتلال اليهودي من جذوره، وهو المسؤولية الشرعية للجيوش التي ترقب قيادة مخلصة.
رأيك في الموضوع