لقد ازدادت مؤخرا حدة التصريحات المتبادلة بين أمريكا والصين وسط تزايد التوتر بشأن عمليات البناء التي تقوم بها الصين في أرخبيل "سبراتلي" ببحر الصين الجنوبي وأظهرت الصين استياءها الشديد بعد تحليق طائرة تجسس أمريكية فوق مناطق قريبة من تلك الجزر، وتبادل الطرفان الاتهامات بالتسبب بزعزعة الاستقرار في المنطقة.
فقد صرح وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر يوم 29/5/2015 في بداية رحلة تستمر عشرة أيام لدول آسيوية قائلا: "الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على النموذج الأمني الإقليمي المشترك الذي وفر الرخاء للجميع على مدى السنوات السبعين الماضية" وقال بلهجة تحدٍّ للصين: "كنا نحلق فوق بحر الصين الجنوبي لسنوات وسنوات، وسنستمر بذلك؛ سنحلق ونتنقل وننفذ عمليات، وهذه ليست حقائق جديدة". ودعا إلى "إنهاء الأعمال التي تنفذها الصين وغيرها من الدول في البحر وعدم إضفاء طابع عسكري على النزاع الإقليمي".
وتصدت له المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون ينغ رافضة تصريحاته ومتهمة الفلبين بتنفيذ أعمال بناء واسعة فيما أسمته جُزراً وشِعاباً مرجانية صينية منذ السبعينات من القرن الماضي، وقالت: "الصين لن تعترف بالاحتلال غير الشرعي. نحث الفلبين على وقف التصريحات المغلوطة كما نحث الولايات المتحدة وهي ليست طرفا في النزاع على بحر الصين الجنوبي، نحثها على اتخاذ موقف مسؤول والتعقل في كلماتها وأفعالها وأن تتحلى بالمنطق والهدوء والتخلي عن الإدلاء بتصريحات استفزازية. هذا النوع من التصريحات لا يسهم في حل النزاع بشكل سلمي لكنه سيضر أكثر في استقرار وسلام المنطقة".
وذكرت صحيفة جلوبال تايمز المملوكة لصحيفة الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني الحاكم يوم 25/5/2015 في مقال افتتاحي: "إنه يجب على الصين الاستعداد بحذر لاحتمال نشوب صراع مع الولايات المتحدة إذا كان الخط الأساسي للولايات المتحدة هو ضرورة وقف الصين أنشطتها، فحينئذ سيكون نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي أمرا حتميا. قوة الصراع ستكون أكثر مما يعتبره الناس احتكاكا".
وقد التقطت الأقمار الاصطناعية الأمريكية مؤخرا صورا تظهر نشاطا للصين في بناء جزر صناعية وتقوم بشكل مكثف على ردم جروف مرجانية تحولها إلى موانئ أخرى بينها مدرج هبوط للطيران يجري بناؤه، وقد ارتفعت المساحة التي يمكن استخدامها خلال سنة من
وأشار ستيف وارين المتحدث باسم البنتاغون يوم 26/5/2015 إلى "الخطوات القادمة للولايات المتحدة للدفاع عن حرية الملاحة في المنطقة بتسيير طلعات جوية للمراقبة وإرسال سفن حربية تجول في المنطقة" التي تعتبرها الصين مجالها الجوي والبحري، مما ينذر بزيادة التوتر.
إن منطقة بحر الصين الجنوبي تضم الفلبين وفيتنام ولاوس وكمبوديا وتايلاند وبروناي وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا. والخلاف بين هذه البلاد يتجلى في مسألة السيادة على بحر الصين الجنوبي والنزاع على جزره بالإضافة إلى مضيق "ملقة" وحرية الملاحة والصيد.
هذه المنطقة تعتبر امتدادا للمحيط الهندي الذي تقع على سواحله الشمالية بورما وبنغلادش والهند حتى تصل إلى الباكستان التي هي أقرب لبحر العرب والذي هو امتداد للمحيط الهندي ومن ثم يأتي خليج عُمان ليصل إلى منطقة الخليج وإلى الجنوب تمتد إلى خليج عدن فباب المندب ليصل البحر الأحمر الذي يعبر منه إلى البحر المتوسط. وهي جزء من منطقة آسيا/ المحيط الهادئ التي تشمل منطقة بحر الصين الجنوبي هذه، كما تشمل منطقة بحر الصين الشرقي والتي تضم اليابان والصين وتايوان والكوريتين الشمالية والجنوبية بالإضافة إلى سواحل المحيط الهندي الشمالية، ففي هذه المنطقة أكبر كثافة سكانية في العالم وأكبر كثافة سكانية للمسلمين؛ ففيها ما يقارب نصف سكان العالم ونصف عدد المسلمين.
تعد جزر "سبراتلي" أبرز الجزر المتنازع عليها في المنطقة وهي عبارة عن أرخبيل يتكون من جزر صغيرة مرجانية غير مأهولة بالسكان. تقع بين كل من الصين والفلبين وفيتنام وتايلاند وبروناي وماليزيا وتبلغ مساحتها حوالي 4 كلم2 موزعة على مساحة 425000 كلم2. ولهذه الجزر أهمية في موضوع ترسيم الحدود الدولية بمنطقة شرق آسيا وتضم مصايد أسماك غنية وكميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، وتعد من أكثر المناطق حركة بالبضائع والسفن ويتناثر حولها أكثر من 250 جزيرة.
وتعتبر هذه المنطقة محل تنافس بين أمريكا والصين فتحاول الأولى تحجيم الثانية إقليميا ودوليا. وفيها ممرات دولية مهمة كممر "سوندا" الذي يصل جنوب شرق آسيا بأستراليا وممر "لومبوك" الذي يربط إندونيسيا بالمحيط الهندي. وممر "ملقة" الأكثر أهمية يربط المحيط الهادئ بالهندي ويمتد لمسافة
فأمريكا تعتبر أن لها حق التدخل في منطقة بحر الصين الجنوبي مع أنه لا حدود لها ولا أرض ولا مياه فيها، ولكن طمعا منها في تعزيز سيادتها الدولية وتأمين مصالحها في المنطقة ومنع الصين من السيطرة على هذه المنطقة فتنافسها فيها. فهي تَعُدّ منطقة بحري الصين منطقة حيوية لها، وهي بغرورها لا تكتفي أن تكون دولة إقليمية في حدود الأمريكيتين، بل تعدّ العالم كله منطقة لها! ولذلك تزاحم الصين في إقليمها توسيعاً لهيمنتها الدولية. فبدأت أمريكا بوضع خطتها الجديدة التي تتعلق بآسيا - المحيط الهادئ، حيث أعلنت يوم 1/6/2012 عن استراتيجية جديدة تقضي بحشد نحو 60% من قواتها البحرية في هذه المنطقة. هذا بالإضافة إلى سياسة التطويق للصين التي انتهجتها بإشغال الصين بقضايا في مجالها الإقليمي لتبعدها عن منافستها عالميا.
فأمريكا تعمل على تطويق الصين بواسطة الدول المحيطة بها وفي المحيط الهادئ وخاصة في بحري الصين الشرقي والجنوبي، فتبني أشكالا من التحالفات والتكتلات وتعزز العلاقات مع الدول هناك لهذا الغرض. وهي تغذي الخلافات والتوترات في وجه الصين، فهي تتابع ملفات هذه الخلافات والنزاعات عن كثب وتدعي أنها تريد حماية الأمن فيها للحفاظ على مصالحها ونفوذها في المنطقة، وتدير مؤتمرات آسيان أي رابطة الدول الأسيوية الواقعة على بحر الصين الجنوبي. وهي تغذي هذه الخلافات لتجعل هذه الدول بحاجة إليها، فتخيفها من تفوق الصين ومن تداعيات التوتر مع كوريا الشمالية. فتستفيد أمريكا من كل ذلك في مواجهة الصين وفي جعل هذه الدول ترتمي بأحضانها. وقد بدأ ذلك منذ أكثر من عقد من الزمان، وبشكل جدي عندما رأت أمريكا أن سياسة الاحتواء للصين وصلت إلى النهاية أو لحد الإشباع، أي أنها لا تستطيع أن تحتوي الصين أكثر مما احتوتها، فقد تقربت إليها بإدخالها في منظمة التجارة العالمية، وازدادت العلاقات التجارية معها، ولم يعد الحوار الاستراتيجي الأمريكي مع الصين حساساً كما كان من قبل، ومع ذلك فلم تصبح الصين في فلك أمريكا، ولا حليفة لها حسب تلك السياسة، ولم تستطع أن تحد من مطامعها لإيجاد هيمنة لها على منطقة بحري الصين الشرقي والجنوبي التي تعتبر منطقة مهمة وحيوية، بل مصيرية لها، وبقيت الصين دولة تحافظ على كيانها وعلى تماسكها وعلى استقلاليتها كدولة كبرى إقليميا تعمل على تعزيز قوتها عسكريا واقتصاديا بحيث بدأت تستغل قوتها الاقتصادية للتأثير السياسي في بعض المناطق وليس فقط لجني الأرباح، وتعمل على تعزيز نفوذها في منطقتها ما يتعارض مع السياسة الأمريكية أو يعرض النفوذ الأمريكي للخطر.
فالصين ترفض تدخل أمريكا وتطلب منها الابتعاد عن المنطقة، وتعتبرها مجالها الإقليمي وأن لها الحق فيها حيث تريد أن تبسط سيطرتها على المنطقة، فتدعي أن حوالي 80% من بحر الصين الجنوبي هو ملك لها. فلديها مطامع إقليمية في السيطرة على منطقتها تلك، ولا تريد أن تكتفي باليابسة التي تمتد أراضيها الواسعة عليها بحيث تبقى محصورة في هذه الأراضي كدولة كبيرة اقتصاديا.
فنتيجة هذا النزاع، يظهر أنه ليس من المتوقع على المدى المنظور أن يصل إلى حالة التصادم الفعلي، وقد جربت أمريكا الحرب الفعلية مع الصين في حرب كوريا في بداية الخمسينات من القرن الماضي، فلم تنتصر فيها، وكانت قدرات الصين أقل بكثير مما هي عليه حاليا، حيث ازدادت قدراتها العسكرية بشكل هائل، ولديها قدرات مالية واقتصادية كبيرة. وكذلك بسبب الظروف الدولية حيث ازداد السخط على أمريكا جراء غطرستها وعنجهيتها واهتزت الثقة بها كدولة رائدة للديمقراطية والحرية وحاملة للقيم الرفيعة، ولم تعد أمريكا تميل لخوض حرب مباشرة، وخاصة أنها لم تتمكن من الانتصار عسكريا في العراق وأفغانستان، ولم تنجح في تحقيق كل ما تريد فيهما، وبسبب أزماتها المالية المستمرة، وازدياد التحدي لها، وقد اهتز موقفها الدولي كدولة أولى تتفرد في السياسة الدولية، فلم تقدم على خوض حرب مع روسيا بسبب جورجيا عام 2008 أو بسبب أوكرانيا والقرم التي ما زالت أزمتها مستمرة منذ عام 2014. والأمة الإسلامية بدأت تؤرق مضاجعها، حيث بدأت تتحداها وتتحرك لطردها وإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة في بلادها ومنها منطقة بحر الصين الجنوبي.
ولذلك ستواصل أمريكا سياستها المتبعة حاليا ضد الصين كما ذكرنا في الأعلى، وسوف تبحث عن أساليب جديدة لزيادة الضغط عليها واستفزازها لتجعلها في حالة توتر دائمي، وتبقيها في حالة توجس من اندلاع حرب فعلية لا تريدها، فتجعلها في حالة اللاحرب واللاسلم.
رأيك في الموضوع