منذ أن جاءت الحكومة الانتقالية في السودان، يممت وجهها شطر الخارج، زاعمة أن حل مشاكل السودان الاقتصادية بيد من أسمتهم (الأصدقاء)، ثم (الشركاء) الذين هم في حقيقتهم يمثلون الدول الاستعمارية التي هي بدورها السبب الرئيس في أزمات السودان وغيره من دول العالم؛ التي يسمونها دول العالم الثالث، وهي في حقيقتها بلاد غنية بالموارد والمواد الخام التي تحتاجها الدول الاستعمارية التي تتحكم في اقتصاديات العالم، عبر مؤسساتها، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين. وكان أن طلبت هذه الدول من السودان الانصياع الكامل لإملاءات هاتين المؤسستين، ممنّين الحكام السابقين والحاليين، بإعفاء الديون إذا التزموا بمطلوباتهما.
ومن هنا بدأت رحلة الابتزاز، حيث قيل إن تنفيذ هذه المطلوبات سيهيئ السودان للدخول في مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (الهيبك)، وهذه المبادرة هي اتفاق بين جهات الإقراض الدولية الرئيسية، أُطلقت في العام 1996م، وتنص على منح فرصة بداية جديدة للبلدان التي تكافح لتجد مخرجاً من خلاله تستطيع أن تخفض أعباء ديونها التي تثقل كاهلها، فطلبت من حكومة السودان شروطاً مذلة وهي: (رفع الدعم عن المحروقات، والقمح، والغاز، والكهرباء...)، وغيرها من شروط تضع السودان في مصيدة قرصان الاقتصاد العالميين. سارت الحكومة في هذا الطريق شوطاً بعيداً، فتم تحرير سعر الوقود بالكامل، وقامت بتخفيض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، وختمت جريمتها برفع التعرفة الجمركية "أي ما يسمى بالدولار الجمركي"، وجعلته مساوياً لسعر الدولار في السوق.
هذه السياسات، بل الإملاءات، جعلت الحياة في السودان جحيما لا يطاق، فارتفعت أسعار السلع والخدمات بمتوالية هندسية، جعلت الناس في حيرة من أمرهم بعد أن كانوا يمنون أنفسهم بحياة رغيدة بعد ذهاب النظام البائد ما اضطر عدداً كبيراً من الأسر لخفض الإنفاق على الغذاء والتنقلات، وفي هذا الصدد يقول محلل شئون السودان لدى مجموعة الأزمات العالمية (هورنر) إنه "من الضروري أن تبلغ الحكومة على نحو سليم المواطنين التسلسل والمنحنى الذي سيأخذه، كي لا ينظروا ولا يروا سوى الألم". وبعد كل هذه السياسات القاتلة قيل للحكومة بعد اجتماع صندوق النقد والبنك الدوليين في 28/06/2021م: "إن السودان قد وصل إلى نقطة القرار"، وحينها حاول البعض أن يصف هذه الخطوة بأنها موافقة لشطب، أو لتخفيف ديون السودان، ولكن الحقيقة غير ذلك، فإن القرار يعني فقط قبول السودان بالمبادرة، وما زال أمامه طريق طويل وشاق للوصول إلى إعفاء بعض ديونه... يشرح المحلل الاقتصادي معتصم الأقرع هذه الخطوة بأنه "يتم اكتمال الإعفاء إذا واصل السودان تطبيق السياسات الحالية نفسها، وعززها بحزم داعمة، وحقق معايير معروفة مرضية للصندوق، تؤهله للوصول إلى نقطة الإكمال "الإنجاز" بعد حوالي ثلاث سنوات". وفي أفضل الأحوال فإن هذا يعني أن قصة الديون لن تنتهي قبل ثلاث سنوات من الالتزام بالبرامج المتفق عليها مع صندوق النقد والبنك الدوليين. ويتابع الأقرع قوله: "لن يحل شطب الديون مشكلة اختلال الاقتصاد الكلي المتجذرة في العجز المزمن والكبير في موازنة الدولة".
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن التقديرات تقول بأن هناك 80% من هذه الديون البالغة أكثر من 60 مليار دولار هي تراكمات ربوية، وأن أصل الدين لا يتعدى 20% فقط من جملة ديون السودان. ونخلص من هذا كله أن إعفاء ديون السودان التي جعلت منها الحكومة الانتقالية قضية محورية في حل مشاكل السودان الاقتصادية، نخلص إلى أنها لن تعفى، أو تجدول هذه الديون قبل ثلاث سنوات، وعلى فرض أنه تم إعفاء كامل للديون، فما هي فكرة الحكومة بعد ذلك، إنها تغرق في الدوامة نفسها، حيث تريد أن تدخل في مصيدة الدين، وحتما إذا لم يكن لها تفكير في كيفية أخرى غير الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، وواضح أنه ليس لديها أي فكرة، ولا مشروع غير هذا الخضوع المهين والمذل، فإن السودان سيظل رهينة لهذه الصناديق الربوية، وسيظل أهل السودان يرزحون تحت الفقر والمسغبة.
إن حل المشكلة الاقتصادية في السودان واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن حكام السودان السابقين والحاليين، لا يرون حلاً إلا ضمن الحدود التي رسمها لهم الكافر المستعمر، الذي ينهب ثروات البلاد، ويفقر العباد عبر إملاءات صناديقه الربوية المهلكة. إن السودان غني بموارده الظاهرة والباطنة التي تحتاج لمن يديرها لمصلحة أهل السودان وليس لمصلحة المستعمرين، تحتاج لرجال لا يرتبطون بالكافر المستعمر، ولا يأخذون أحكامهم ومعالجاتهم من إملاءاته، وإنما رجال ذاتيون، يأخذون الأحكام والمعالجات من عقيدة الأمة؛ الإسلام العظيم الذي إذا طُبقت أحكامه في أرض الواقع، جعلت من السودان سلة غذاء العالم حقيقة، وليس مجرد شعارات جوفاء.
إن السودان ليس بحاجة إلى قروض أو منح، وإنما هو بحاجة إلى إدارة ما لدينا من موارد؛ مثل الذهب الذي ننتج منه أكثر من مائة طن، يمكن أن نجعل منه عملتنا فتكون لها قيمة حقيقية، ونقطع علاقتنا بالدولار الذي لا يساوي إلا ثمن الورقة والحبر الذي طبع بها، ثم نفجر طاقات الأمة في الزراعة والصناعة والتجارة، بإلغاء كافة الرسوم والجبايات الحرام التي تعطل الإنتاج، فينزل الله سبحانه وتعالى بركته في زرعنا وضرعنا وتجارتنا كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز الذي طبق أحكام الإسلام كاملة، وجعل الناس يزرعون حتى فاض الخير، ولم يبق فقير يأخذ الزكاة، فطلب من عماله أن يشتروا القمح وينثروه في سفوح الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين.
ولن يقوم بهذا العمل إلا دولة تقوم على عقيدة الأمة؛ عقيدة الإسلام العظيم؛ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، تعمل في الناس بكتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم ﷺ، وما أرشدا إليه، وتقطع يد الكافر المستعمر العابث بمقدرات بلادنا، هذا هو الطريق الوحيد لخروج السودان، والبلاد الإسلامية، بل والعالم أجمع من براثن الوحش الكاسر؛ النظام الرأسمالي الجشع.
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع