إن هيبة الدولة مقترنة بقوة سلطتها فإذا كانت الدولة ضعيفة وكانت هناك جماعات مسلحة أقوى منها تمارس القتل وتعبث في أمن البلاد واقتصاده ولا تخاف عقوبة أو محاسبة، فليس هناك شك في فقدان الدولة هيبتها وسيادتها.
وواقع العراق اليوم أنه يعيش كابوس الجماعات المسلحة أو ما يسمى بالسلاح المنفلت.
ولمعرفة كيف وصل البلد إلى هذا الحال، لا بد من العودة إلى الوراء لمعرفة النشأة والتكوين والتكاثر وصولا إلى تهديد الدولة وسلب سلطانها.
نشأت أولى الجماعات المسلحة إبان الحرب العراقية الإيرانية وبدعم إيراني وهي منظمة بدر التي أسسها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، على يد محمد باقر الحكيم الذي اغتيل عام 2003.
ظهور جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر الذي شارك في الفتنة الطائفية التي أشعلتها أمريكا بين عامي 2005 و2006 وإشغال أبناء البلد في الاقتتال فيما بينهم لصرفهم عن مقاومتها بعد الأذى الذي نالها من ضربات المقاومة الموجعة، وبعد اتهام الشارع العراقي لجيش المهدي بالجرائم الطائفية والقتل الجماعي أو ما يسمى بفرق الموت ضد السنة وإدراج اسم جيش المهدي في عمليات الإبادة والتهجير القسري التي حدثت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، واعتراف مقتدى الصدر بوجود عناصر في جيش المهدي مجرمة وفاسدة، وهو بريء منها، أصدر مقتدى الصدر قراراً بتجميد أنشطة جيش المهدي كافة اعتباراً من يوم 29 آب/أغسطس 2007م، وفقا لبيان صدر عنه "وإنه من يخل بذلك فلا يحسبن نفسه منتميا إلى ذلك العنوان العقائدي"، وفي شهر آذار/مارس عام 2008 قدم المالكي نفسه كبطل وطني وقاد عملية عسكرية واسعة النطاق بالتعاون مع القوات الأمريكية والبريطانية في جنوب العراق عرفت بصولة الفرسان استهدفت نفوذ جيش المهدي، وبعد أيام من القتال الشرس أصدر مقتدى الصدر بيانا إلى أفراد جيشه بوقف القتال وإلقاء السلاح وقامت قوات الأمن العراقية بعمليات دهم واعتقالات واسعة.
ولكن النقلة النوعية للمليشيات المسلحة حدثت بعد سيطرة تنظيم الدولة على مناطق واسعة من العراق وانسحاب القوات المسلحة العراقية أمامه، فأصدر المرجع الديني علي السيستاني فتوى بالجهاد الكفائي، فأضيفت إلى الفصائل الرئيسية كمنظمة بدر وسرايا السلام مجاميع جدد لبوا نداء المرجع الديني علي السيستاني.
ثم نمت هذه الفصائل وتنوع ولاؤها بعد عام 2017 ما بين سياسية ودينية وإقليمية (إيرانية)، وأصبح لهم اليد الطولى في البلد وتضخم نفوذها وخاصة الفصائل المسلحة الموالية لإيران وتحديداً بعد وصول رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة، حتى أصبح تعدادها أكثر من 40 فصيلا مسلحا جلهم ولاؤه لإيران، وأبرزهم منظمة بدر وكتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وكتائب الخراساني وحركة النجباء وسرايا السلام، وقد شهدت العاصمة بغداد أكثر من استعراض لتلك الجماعات المسلحة خلال الفترات القليلة الماضية؛ ففي حزيران 2020 اقتحم مسلحون تابعون لـكتائب حزب الله المنطقة الخضراء، على خلفية اعتقال ما عرف حينها بـ"خلية الكاتيوشا"، وآخرها تطويق المنطقة الخضراء إثر اعتقال القيادي قاسم مصلح، ولعل أحد أهم الأسباب التي حفّزت انتفاضة تشرين 2019 العراقية هو توسع نفوذ المليشيات المسلحة على حساب الدولة، حيث تضمنت مطالب المحتجين ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وإخراج النفوذ الإيراني من العراق تحت شعار "إيران برة برة" وهذا ما أثار حفيظة هذه الجماعات وتعرضوا للانتفاضة بالقتل والتغييب والاغتيال.
والآن باتت هذه المليشيات كابوسا يؤرق الشعب العراقي وهم يرون ذهاب هيبة الدولة وعجز الحكومة أمام التصدي لهم وفرض القانون عليهم، خاصة بعد اكتفائهم في التمويل ذاتيا عن طريق تهريب النفط وتجارة المخدرات والسيطرة على المنافذ والاختطاف وأخذ الإتاوات من التجار.
ويبدو أن أمريكا التي تسببت في خلق هذه المأساة منذ احتلالها للعراق وقدوم الجماعات المسلحة كمنظمة بدر مع الحفنة السياسية التي جلبتها معها وسمحت لهذه الجماعات التغلغل في مؤسسات الدولة، عندما سمحت بتغلغل الجماعات المسلحة في المؤسسات العراقية، يبدو أنه قد نفد صبرها مع استمرار استهداف سفارتها وجنودها في القواعد العسكرية، وقد تضطر لمواجهتها بالقوة العسكرية، كما أشارت تصريحات مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، وهي الآن تدفع بالكاظمي لكبح جماح بعض هذه الجماعات خاصة بعد قتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس، مستفيدة من موقف الشارع العراقي الرافض لهذه الجماعات، ولكن يبدو أن الكاظمي أضعف من هذه المواجهة وقد أدرك الشعب العراقي ضعف الدولة من خلال عملية الاعتقال لقاسم مصلح وكيف هدد المسلحون المنطقة الخضراء وأرغموا الحكومة على تبرئته، وبعد خروجه استقبل استقبال الأبطال وحضر قاآني قائد فيلق القدس الإيراني واجتمع بالفصائل المسلحة ووضع توجيهاته التي لم يعلن عنها، وقد تكون توجيهات بالتهدئة لعدم التصادم المسلح مع الدولة خاصة أنه يدرك أن هذه الجماعات وبالرغم من الإرهاب الذي تمارسه والتهديدات لكنها لا تصمد أمام القوات المسلحة العراقية والتي تعدادها قرابة المليون إذا ما حصل صدام حقيقي مسلح.
أما إيران فإنها لا تريد أن تخسر المكاسب التي حققتها من نفوذها في العراق وهي تحاول أن تجعل من العراق نموذجا يشابه النموذج اللبناني بقيادة حزبها في لبنان.
ومن كل ما تقدم نرى أن العراق بلد تائه في ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض؛ بين المحتل الأمريكي والحكومة العميلة والمليشيات المسلحة، وأن جميعهم أعداء هذا الشعب الجريح وهم شركاء في قتله ونهب ثرواته، وأنه لا علاج ولا نجاة للشعب العراقي إلا بثورة عارمة تعم جميع البلاد تحت قيادة مخلصة.
أيها المسلمون في العراق: اعلموا أن الشعوب أقوى من المحتل وقد جربتم مقاومته، وأقوى من الحكومات وقد رأيتم بأم أعينكم ثورات الشعوب، وهم حقيقة أقوى من الجماعات المسلحة التي لا تمتلك الأرضية الشعبية، وتأكدوا أن التضحيات التي سوف تقدمونها لهذا الأمر وهي تضحيات فيها حياتكم وعزكم، أقل بكثير من التضحيات التي سوف تدفعونها في استمرار هذا الواقع المزري.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ – ولاية العراق
رأيك في الموضوع