رغم أن الغرب اطمأن لما وصلت إليه المجتمعات في البلاد الإسلامية من تغريب وتفكك وانحلال بفضل ما نشره من فكر النسوية والحرية، إلا أنه ظل يراقب ويدرس كل حركة تنذر بصحوة للمسلمين أو يقظة فكرية تظهر ولو على فئة منهم، فالغرب متأكد من حتمية عودة المسلمين لسابق مجدهم وعزهم، ويعرف أن الآيات والأحاديث تخبر بذلك ويعمل جاهدا ليؤخر عودتهم لمكانتهم الأصلية ما استطاع؛ لهذا تكثر عندهم مراكز دراسة حركة الشعوب المسلمة لتحديد كيفية التعامل معها ويقومون بتغيير خططهم وأساليب تأثيرهم عليها.
ورغم أن حركة الثورات التي قامت في بلادنا منذ سنة 2011 كانت مفاجئة وغير متوقعة إلا أن الغرب سارع في احتوائها وإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه أو أشد قسوة، لكن هذا لم يمنعه من زيادة الاحتياطات وأخذ التدابير التي تُحكم قبضته على المسلمين وتُخضعهم لسلطته وتمنعهم من الانعتاق من سيطرته.
فتقسيم سايكس بيكو مثلا، لم يعد كافيا في تفريق وحدة المسلمين، لهذا سارعت الدول العظمى إلى نصب حواجز عسكرية تضمن بفضلها عدم تمكن المسلمين من الالتحاق بالدولة الإسلامية في حال قيامها في قطر من الأقطار والحيلولة بينه وبين التحام القطر المجاور للدولة الناشئة. ففي تونس مثلا بني حاجز ترابي ومائي على الحدود الليبية التونسية، وأصبحت الصحراء منطقة عسكرية ممنوعة على التونسيين. وفي تونس كذلك يعقد الجيش والأمن اتفاقيات مع أمريكا وبريطانيا لحماية الحدود ولتسليح الجيش وللتحكم في العقيدة الأمنية وعقيدة الجيش. هذا ما كان ظاهرا للعيان لكن ما خفي علينا قد يكون أكبر وأخطر مما يركزه الغرب من حواجز عسكرية، هم يعلمون أنها لا تلغي قيام الدولة ولكنها تعيقها وتعطلها حين تقوم.
ولا يقتصر الغرب على تثبيت الحواجز العسكرية، فهم يولون اهتماما كبيرا للناحية الاجتماعية ويرون أنها لا تقل أهمية عن الناحية العسكرية وربما تكون أهم، خاصة أنه نجح منذ هدم الخلافة في إحداث تغيير كبير على نمط عيش المسلمين وطريقة تفكيرهم ووجهة نظرهم؛ ففكرة الحرية والمساواة وما دعت إليه الحركات النسوية من تحرير المرأة طبعت مجتمعنا بالطابع الغربي إلى حد بعيد، لكن ما بقي من بعض أثر للعقيدة ظهر في أول اختبار حين تسابقت النساء في تونس بأعداد كبيرة للالتحاق بجمعيات تحفيظ القرآن بعد السماح لها بالنشاط، وإقبال الفتيات والنساء على ارتداء الحجاب بعد إلغاء المرسوم عدد 108 الذي كان يمنع ويعاقب من ترتديه. أكد هذا للغرب أن العقيدة الإسلامية حية في نفوس المسلمين وأن المرأة التي شغلها بتحقيق ذاتها وبالمساواة فتخلت عن أسرتها وخرجت للعمل متبرجة معلنة الحرب على الرجل، قد تُراجع كل هذا وتعود بكامل إرادتها إلى الأحكام الإسلامية خاضعة راضية في أول عملية جرد جدية لما جنته من خيبات جراء انصياعها لأفكار غربية غريبة عنها مناقضة لعقيدتها منافية لفطرتها السليمة.
كل هذا وغيره جعل الغرب يتخذ أسلوبا جديدا للسيطرة على مجريات الأحداث، فكان إقرار حرية الضمير والمساواة التامة بين الرجال والنساء في الدستور مدخلا لمزيد من الإجراءات التحفظية اللاحقة.
ولم يدخر الغرب جهدا ولا وقتا، فسرعان ما صعدت اتفاقية سيداو إلى السطح وبدأ الحديث عنها وعن وجوب تفعيلها ومدى أهميتها يغزو كل المحافل والمجالس، حتى رفع الباجي قايد السبسي كل التحفظات عنها وتمت مناقشتها في مجلس النواب وصادق عليها المجلس، وأُدرجت في الرائد الرسمي للدولة تحت مسمى القانون عدد 58، وبهذا دق الغرب وتدا مهما في الحاجز الاجتماعي الذي يعمل على تثبيته بقوة كبيرة.
وها نحن اليوم ننتقل للحديث عن اتفاقية جديدة وخطيرة لما تحويه من قوة في الجانب التنفيذي، فاتفاقية منع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي المعروفة "باتفاقية إسطنبول" تتميز عن "سيداو" بشدة التركيز على جانب الرقابة على الناحية التنفيذية حيث مكنت منظمات المجتمع المدني من دور المراقب والمتدخل في حال عدم الالتزام ببنود الاتفاقية ورفع القضايا في المحاكم الغربية كلما اقتضى ذلك. كما أن منح القائمين على الاتفاقية من الحصانة التامة وحرية التنقل والتدخل في كل الدول الموقعة عليها يجعل مجتمعنا رهين قراراتهم وآرائهم.
إن العاقل ليتساءل: لماذا بلادنا تسعى لتوقيع اتفاقية خاصة بالاتحاد الأوروبي وهي ليست جزءا منه؟ وما هو الداعي لهذه الاتفاقية وهي تشبه إلى حد كبير اتفاقية سيداو؟
والجواب على هذا، أن دولنا مستباحة ولا تملك إرادة ولا قرارا سياسيا، وأن الغرب اليوم يخطط للمدى البعيد، الذي يراه كثير منا بعيدا ويراه أصحاب البصيرة قريبا كما يراه الغرب المتوجس من قربه والعامل على الحيلولة دون تحقيقه.
فالاستخلاف الذي وعدنا به الله سبحانه وبشرنا به نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه بات قريب المنال والكافر المستعمر يحس قربه ويعد العدة لتعطيله ببناء كل هذه الحواجز.
ولئن كان الحاجز العسكري يحول دون اتساع الدولة حال قيامها فإن الحاجز الاجتماعي يعطل الدولة الإسلامية ويشغلها في حرب داخلية مع فئات مضبوعة بهذه الأفكار وتستعين بالغرب في نيلها وعدم التخلي عنها.
هذه الحواجز وإن كانت محكمة التثبيت إلا أنها لن تقف مانعا دون تحقق النصر إذا حان وقته فتنهار في وقت قصير ويظهر ضعفها أمام قوة وعدل الاسلام بإذن الله...
رأيك في الموضوع