بمناسبة أداء أعضاء الحكومة الجديدة برئاسة هشام المشيشي اليمين الدستورية، ألقى رئيس تونس قيس سعيّد كلمة وصفها مراقبون بأنها إعلان حرب، إذ هاجم الرئيس أحزابا وشخصيات سياسية دون أن يسميها، متهما إياها بالخيانة وحياكة المؤامرات والارتماء في "أحضان الصهيونية والاستعمار"، متوعدا بكشفها ومحاسبتها. قائلا "أعرف الصفقات التي أبرمتموها وسيأتي اليوم الذي أتحدث فيه عن كل ما حصل في الأشهر الماضية، سأتحدث بكل صراحة عن الخيانات والاندساسات وعن الغدر وعن الوعود الكاذبة وعن الارتماء في أحضان الصهيونية والاستعمار".
وقد جاء هذا الكلام في إطار رد مباشر من الرئيس على نواب البرلمان الذين هاجموه في جلسة منح الثقة للحكومة، حيث قال: "تابعت من صدح بالحق وتابعت من كذب وادعى وافترى وما أكثر المفترين في هذه الأيام، ولكن هناك دائما رجال صادقون إذا اؤتمنوا لم يخونوا الأمانة".
وردا على بعض قيادات الأحزاب التي اجتمع بها الرئيس قبل جلسة منح الثقة والتي خرجت تصرح لوسائل الإعلام أن الرئيس طلب من الأحزاب إسقاط حكومة المشيشي مقابل عدم حل البرلمان، على أن تواصل الحكومة الحالية مهامها برئيس جديد بدل إلياس الفخفاخ التي اعترضت عليه الأحزاب...
وردا على المشككين في دور الرئيس الذي يقولون: "ماذا فعل رئيس الجمهورية"؟ قال قيس سعيّد في خطابه متسائلا: "ماذا فعلتم أنتم في الأشهر الماضية باستثناء المشاورات تحت جنح الظلام وفي الغرف المظلمة؟"
خطاب الرئيس جاء متشنجا متوترا، يشير إلى ما اكتنف تشكيل الحكومة من تنازع وتنافر ظهر للرأي العامّ، وما شاع من كلام عن الرئيس بأنه طلب من الأحزاب أن تُسقط الحكومة، مقابل أن لا يحل البرلمان، بما يعني أن قيس سعيّد دخل في مساومات وابتزاز للأحزاب السياسيّة، وأنه سحب البساط من تحت الأحزاب السياسية وافتك منها المبادرة، وأنّه فرض على رئيس الحكومة المشيشي أن يعيّن تكنوقراط لا ينتمون إلى الأحزاب. ليمنع الأحزاب الفائزة في الانتخابات من الحكم، ثم بدأ الكلام يروج أن قيس سعيّد يريد تغيير قواعد اللعبة السياسية في البلاد وتغيير النّظام إلى نظام رئاسي ومنهم من ذهب إلى أنّ حكومة الرئيس هي خطوة تمهيديّة نحو العودة إلى النّظام الرئاسي... (بل الاستبداد)... جاء خطاب الرئيس ردة فعل متشنجة على ما شاع حول تدخّله وتلاعبه في مسألة تنصيب الحكومة.
فقد تضمّن إدانة واضحة، بالكذب والافتراء والخيانة والغدر والتعامل مع الاستعمار والصهيونيّة، نقول إدانة وليس اتهامات، لأنّ الاتهامات تحتاج إلى تحقيق وأدلة، أما الرئيس في خطابه فواثق مما يقول فهو على علم بالصفقات التي أبرمت والخيانات والغدر والاندساسات.... وهذا يعني أنّ جرائم خيانة تحصل في تونس والرئيس يعلم بهذه الجرائم، فماذا سيفعل؟
قال: "سيأتي اليوم الذي سأتحدث فيه عما حصل في الأشهر الماضية" (هكذا) تُقابل جرائم خيانة الدولة بالحديث يوما لا نعرف حتى موعده، فهل تقابل الجريمة والخيانة بالحديث؟!
هذا يكشف أنّ قيس سعيّد:
- غير جدي في تهديداته، إنما تهديده مجرّد كلام تذروه الرياح، فالخيانة والتعامل مع الاستعمار والصهيونيّة هو في عرف جميع الناس خيانة، وهو عند قيس سعيّد كما زعم في مناظراته الانتخابية جريمة وخيانة عظمى تستوجب أقسى العقوبات، لا مجرد التهديد والوعيد بالكشف، وكأنه ليس برئيس ذي صلاحيات واسعة فيما يتعلق بأمن البلاد داخليا وخارجيا!! ولا يُقال في هذا المقام إنّ قيس سعيّد كرئيس صلاحياته محدودة، لا يُقال ذلك لأنّ مسألة التعامل مع الأعداء مسألة أمن قومي كما يقولون، وحفظ أمن البلاد من صميم صلاحياته بل هي الصلاحيات الوحيدة التي ينفرد بها عن باقي السلطات ويده فيها طولى لا يُعيقها عائق، لأنّ الجديّة تقتضي القيام بأعمال توقف المؤامرات وتضرب على أيدي الخونة بقوّة وحزم، أمّا التهديد فشأن الضعفاء الذين لا يملكون حيلة.
- الهدف الأساسي من خطاب قيس سعيّد أن يحسّن صورته التي بدأت تهتزّ أمام الرأي العامّ خاصّة بعد زيارته إلى فرنسا التي ظهر فيها هوانه وارتباكه وتهالكه أمام المستعمر القديم (خاصّة في تصريحه الفضيحة الذي نفى عن فرنسا صفة المستعمر ووصفها بالحماية). نعم إنّ الذي يتأمّل خطاب الرئيس يجده خطابا في ظاهره هجوم ولكنّه في حقيقته دفاع عن نفسه لا غاية له إلا تلميع صورته أمام النّاس؛ حتّى يواصل مهمّته التي جيء به من أجلها.
- يكشف أنّ الصراع بين القوى السياسية في البلاد، وخاصة الصراع بين الرئيس والأحزاب الممثلة في البرلمان ليس إلا مسرحية لكنها سيئة الإخراج، فالمعلوم بداهة في أيّ صراع، وخاصة السياسيّ، أنّ كل خصم ينتهز أول فرصة لإسقاط خصمه وإخراجه من السّاحة (وهذا ما فعلته النّهضة مع رئيس الحكومة المستقيل، بل هذا ما فعله قيس سعيّد مع رئيس الحكومة المستقيل حين طلب منه الاستقالة صراحة، مع أنّ الموجّه إليه كان مجرّد اتّهامات لم تثبت)، فلِمَ لَمْ ينتهز الرئيس الفرصة ويُخرج من ثبتت إدانته بأخطر ممّا أتاه إلياس الفخفاخ؟ ولِمَ لَمْ ينتهز الرئيس الفرصة ليُخلّص البلاد ممّن يخونها؟ لِمَ لَمْ ينتهز الفرصة ويخلّص البلاد ممّن يفتعلون المصاعب والأزمات؟...
أهو العجز؟ أم طبيعة الدّور الموكول إلى الرئيس لا يملك أن يتجاوزه؟!
- يكشف خطاب سعيّد أنّ الرئيس وكل السياسيين لهم خطوط لا يمكنهم تجاوزها، فلا يستطيع الرئيس محاكمة من ثبتت إدانته، ويستطيع إزالة من لم تثبت إدانته. وهذا يدل على مقدار التدخل الأجنبي في صناعة القرار في تونس، نعم بقاء الحكومة أو سقوطها، بقاء سياسي أو غيابه عن الساحة أمر لا يعود إلى السياسيين ولا إلى الرئيس أو البرلمان، الأمر كلّه يعود إلى أوروبا وبخاصة بريطانيا التي تتحكم في كل تفاصيل المشهد السياسي. ويبقى الرئيس والأحزاب مجرد لاعبين يؤدون ما يُطلب منهم، غير أنّهم قد لا يُحسنون الأداء فينكشفون وينكشف من وراءهم ومن يسيّرهم من وراء البحار.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
عضو مجلس الولاية لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع