إن إعلان تطبيع الإمارات العلاقات مع كيان يهود، ثم الحديث عن وجود دول عربية أخرى ستحذو حذوها قريباً، أصاب المسلمين عامة والعرب منهم خاصة بنكد عظيم، كما أصابهم حين وقع السادات اتفاقية "كامب ديفيد" المشؤومة، ولاحقاً أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم وادي عربة مع الأردن.
فبطبيعة الحال هذه الخطوات لا تنسجم مع فكر الأمة وعقيدتها وهمّها ومزاجها، فالشعور بالأسى تجاه تصرفات حكامها مع أعدائها أمر طبيعي يعكس هذا التناقض بينها وبين حكامها. إلا أن على الأمة أن تدرك أن هذه العلاقات الظاهرة بين حكامها وكيان يهود ليست وليدة ليلة وضحاها، بل كان منها ما هو مستتر وما هو معلوم، بل إن هذه العلاقات والاتصالات بدأت بين يهود والحكام قبل إقامة كيان يهود، وهذا ما فضحته الوثائق الكثيرة حول هذه العلاقات منذ وقت مبكر مع بداية التآمر لاغتصاب فلسطين، بل إن فلسطين لم تُغتصب إلا بسبب هذه الخيانات الناتجة عن تلك العلاقات والاتصالات التي كانت مخفية في بادئ الأمر، ومع دخول الدول العربية مرحلة الانقلابات العسكرية كان كل انقلاب يفضح تلك العلاقات ويجعل منها مبرراً لانقلابه، ثم لتكتشف الأمة أن هذه الأنظمة الجديدة أسوأ من التي سبقتها في التآمر على فلسطين لتصفية قضيتها، ثم لتطفو على السطح من جديد تلك العلاقات مع كيان يهود، ففي السنين الأخيرة قبل الإعلان عن تطبيع العلاقات بشكل رسمي مع كيان يهود كثرت اللقاءات في المنتديات العالمية وفتح مكاتب تمثيلية ثم تبادل زيارات علنية، سيما ما يتعلق بالإمارات تحديداً حيث شارك وزير البنى التحتية لكيان يهود في "مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة" في أبو ظبي مطلع العام ٢٠١٠، وكان قد سبق ذلك أن فُتِح ليهود مكتب تجاري في إمارة دبي، وهذا الأمر ينسحب على دول كقطر والبحرين وعُمان ومؤخراً السودان.
إذاً لا شك أن إعلان تطبيع العلاقات بين الإمارات وكيان يهود اليوم والحديث عن خطوات مماثلة من دول عربية أخرى يأتي في سياق زمني مختلف نتيجةَ تغيّر أسلوب أمريكا في التعاطي مع أزمة فلسطين سيّما ما يسمى بعملية السلام في الشرق الأوسط، حيث كانت توجهات الإدارات الأمريكية السابقة توقيع اتفاق سلام بشكل جماعي من طرف العرب مع كيان يهود يتبعه تطبيع العلاقات، وذلك من باب الضغط عليه للسير في خطتها، وما تمنّع الحكام آنذاك عن إعلان علاقات وتطبيع مع كيان يهود إلا مخافة مخالفة إرادة أمريكا، بينما اليوم ترامب وصهره كوشنير قد غيرا الأسلوب بالشكل وبعض المضمون المعهودين في التعامل مع ما يسمى بالصراع (العربي-الإسرائيلي).
وبالعودة إلى السؤال هل نعيش زمن انتكاس أم انكشاف؟ فإن الجواب طبعاً أنه انكشافٌ وليس انتكاساً، فلا شيء جديد في علاقات الحكام مع كيان يهود، ولا جديد في مستوى العداء بين الأمة الإسلامية والمحتلين الغاصبين، بمن فيهم شعوب تلك الدول المهرولة، الجديد فقط هو إظهار هذه العلاقة بالشكل الفاحش كما نراه!
فما الذي يجعل الحكام في هذه الفترة الذين لا يقلون عمالة وخيانة عن حكام الفترة الماضية؛ ما الذي يجعلهم اليوم يجاهرون بهذا الفحش؟!
الجواب هو أن هؤلاء الحكام ومن خلفهم أسيادهم أمريكا والغرب ويهود يظنون أن الأمة تعيش حالةً من اليأس والإحباط والانكسار، سيّما بعد ضرب حَراكها والالتفاف على ثوراتها في مصر وسوريا وليبيا واليمن والجزائر والسودان، وإدخال هذه الثورات في نفق مظلم بغية تيئيس المسلمين من التغيير الجذري، كما ويظن أعداء الأمة أن الصراع الطائفي الذي أذكوه مع إيران وبالتآمر معها سيجعل المسلمين يرتمون في حضنهم وإن كان ذلك على حساب القبول بالاعتراف بكيان يهود وتطبيع العلاقات معه.
إن هذا الظن ظنٌ خائب، فالمسلمون مأمورون بإبقاء حالة العداء قائمةً مع عدوهم، فالله عزّ وجلّ يقول: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة المجادلة: 22] وكذلك يقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [سورة فاطر: 6]
لا أقول إن ما يفعله هؤلاء الحكام أمر جيّد، بل حيث إن العلاقات كانت قائمة بالأصل، فإنّ ما يظهره الحكام من ولاء لأعداء الأمة اليوم بهذا الشكل الفاقع ليزيل الغشاوة عن أعين كثيرين من أبناء الأمة الذين ظلوا يظنون بحكامهم الخونة بعضاً من حسن النية، إذ افتضح أمرهم بأيديهم وانكشف دورهم الذي هو أشدّ وطأة من يهود أنفسهم.
هذه الكلمات لربما لا تضيف كثيراً لكثيرٍ من المسلمين، إلا أن الغاية منها رؤية الوجه المعاكس للصورة والحالة النفسية التي أرادها الكفار للمسلمين، فلا تأسوا أيها المسلمون على أنفسكم مما تشاهدونه، فما زال الإسلام ينبض في عروقكم فلا تُهزموا نفسياً وتستكينوا، بل إنّ ما يجري عسى أن يكون دافعاً لشحذ الهمم والعمل على خلع حكام الدياثة الذين لا يستحيون من الله ورسوله والمؤمنين، فالبوصلة في بلادنا باتت واضحة، فمهما تطرقتم لأي مشكلة أو قضية من قضايا المسلمين ومنها تحرير فلسطين أو تحرير الإنسان من جور الاستعمار أو النهضة الحقيقية، فكلها تشير إلى اتجاهٍ واحد، ألا وهو إسقاط هؤلاء الأنذال... فاعملوا مع المخلصين للتخلص منهم وبيعة أمير واحد تقاتلون من ورائه وتتقون به، يحكم بشرع الله الرحمن وهدي نبيه.
إن هؤلاء الحكام قد يئسوا من رحمة الله ونسوا لقاءه، ويريدون منكم أن تيأسوا من رحمته كذلك! عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي ألله عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَال: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ عِندَ اسْتِه يَوْمَ القِيامةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، ألَا وَلا غَادر أعْظمُ غَدْراً مِنْ أمِيرِ عامَّةٍ» رواه مسلم.
بقلم: الأستاذ عبد الله المخلص
رأيك في الموضوع