لقد هبط سعر صرف اليورو مقابل الدولار من 1.40 دولاراً إلى 1.04 دولاراً منذ شهر آذار 2014، أي ما يعادل 30% من قيمة اليورو. إن هبوط قيمة اليورو أمام الدولار على هذا الشكل يعني بالضرورة خروج اليورو بكميات أكبر من منطقة اليورو إلى منطقة الدولار، لأن سعر شراء اليورو قد انخفض بشكل ملموس وبالتالي فإن حيازة اليورو من خارج منطقة اليورو أصبحت أسهل، ما يمكّن من شراء البضاعة من منطقة اليورو وبأسعار متدنية. يقول جورج سارفيلوس الباحث في بنك دوتش الألماني إن اليورو يمكن أن يصل إلى 85 سنتا مقابل الدولار، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى زيادة كمية السيولة النقدية بشكل هائل من عملة اليورو في منطقة اليورو الأوروبية. وسبب كثرة السيولة (الكاش) يعود إلى ممارسة بنك أوروبا المركزي المتمثلة بما يعرف بالتسهيل الكمي (quantitative easing). وعملية التسهيل الكمي هي إحدى الوسائل التي تستعملها البنوك المركزية العالمية مثل البنك الأوروبي المركزي وبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي لضخ أموال في السوق لدفع عجلة الاقتصاد وزيادة الإنفاق على المشاريع والإنفاق الاستهلاكي من قبل الأفراد. وتستعمل هذه الوسيلة عادة بعد أن تستنفد الوسيلة الأخرى والأهم في هذا المضمار وهي خفض سعر الفائدة الربوية إلى ما يقرب الصفر على القروض التي تعطى للبنوك التجارية من أجل تشجيع الاستثمار والإنفاق. وقد استنفد بنك أوروبا المركزي هذه الوسيلة دون أن يتحقق تقدم ملموس في الاقتصاد بل تراكمت الديون على البنوك المحلية والحكومات والشركات الاستثمارية، ما دفع بنك أوروبا المركزي إلى التوجه نحو استعمال أسلوب التسهيل الكمي (QE) بعد تردد طويل. ونتج عن هذه العملية تراكم كميات هائلة من اليورو على شكل سيولة نقدية (cache). ويقول سارفيلوس إن الوسيلة الوحيدة للتخلص من السيولة الزائدة هي تسهيل خروج اليورو إلى خارج منطقة اليورو. وهذا بالضبط ما يحققه نزول سعر اليورو مقابل الدولار. فهو من جهة يحول دون درجات عالية من التضخم بسبب وجود فائض نقدي كبير (معدل 24 مليار يورو شهريا) وفي الوقت نفسه يعمل على دعم تصدير المنتوجات الأوروبية إلى منطقة الدولار ما يؤدي إلى تحسين الاقتصاد الحقيقي. من هنا يتضح أن هبوط سعر صرف اليورو مقابل الدولار ليصل سعر اليورو إلى ما دون الدولار (حوالي 85 سنتا) هو من تصميم وتخطيط البنك المركزي الأوروبي لعلاج الوضع الذي نتج عن سياسة التسهيل الكمي.
وسياسة تخفيض سعر صرف اليورو مقابل الدولار لا تتوافق مع السياسة الاقتصادية الأمريكية التي تعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر منافس اقتصادي وبالتالي سياسي. حيث إن ضعف اليورو مقابل الدولار من شأنه تشجيع الاستيراد من الاتحاد الأوروبي وتحسين الاقتصاد الحقيقي المعتمد على الإنتاج وتشجيع الاستثمار في الاقتصادات الأوروبية. وما من شك أن زيادة حجم الاقتصاد الأوروبي يزيد من مقدرة الاتحاد الأوروبي على المنافسة السياسية. ومن هنا فإنه من الممكن أن نفهم تأثير هبوط سعر البترول على منطقة اليورو. فمن وجهة نظر اليورو فإن هبوط سعر اليورو يمكّن من خروج كمية أكبر من اليورو إلى خارج منطقته بزيادة قدرها حوالي 30% على فاتورة النفط، وهذا ما يتفق مع توجه الاتحاد الأوروبي. ومن وجهة نظر الدولار فإن نزول سعر النفط حوالي 50% من سعره الذي بدأ يتهاوى تقريبا بنفس الفترة التي بدأ فيها نزول سعر اليورو، فإنه يخفض فاتورة النفط الأوروبية بمقدار النصف، وبالتالي فإن الفائدة التي كان من الممكن أن تجنيها أوروبا بسبب ضعف سعر اليورو أمام الدولار فيما يتعلق بفاتورة النفط تتقلص من 25% على مجموع فاتورة النفط إلى أقل من 23% بالاتجاه المعاكس. ويجب ملاحظة أن زيادة فاتورة النفط (لولا هبوط سعر النفط) كان من المفروض أن يصب في سياسة أوروبا المتعلقة بزيادة كمية اليورو الخارج من أوروبا إلى عالم الدولار. وهذا عكس ما يتوقعه الكثير من أن زيادة فاتورة النفط الأوروبية ليست في مصلحة أوروبا. صحيح أن الزيادة في فاتورة النفط تعد خسارة في الظروف العادية، ولكن الظروف الحالية ليست عادية مطلقا. فالظرف الحالي هو ظرف أزمات اقتصادية تعصف بالعالم وبالتالي فإن زيادة منسوب السيولة النقدية لم يكن بالطرق الطبيعية وليس ناتجا عن اقتصاد حقيقي، وبالتالي فإن التخلص من فائض السيولة النقدية يصبح مطلبا. ومن هنا فإن خفض أسعار النفط في مثل هذه الظروف يأتي معاكسا لمصلحة أوروبا الاقتصادية ولو مؤقتا لأنه يفوت عليها فرصة تقليل حجم الفائض من السيولة النقدية.
والمحصلة أن الدول العظمى التي تمتلك إرادتها السياسية تتبنى ما يصلح لها من السياسات الاقتصادية وقد تخطئ أو تصيب ولكنها في النهاية تعمل لمصلحة شعوبها، على خلاف الدول التابعة والمستعمَرة التي تعمل لمصلحة الدول العظمى. ونحن نتطلع إلى اليوم الذي تعود فيه دولة الخلافة التي تعمل بإرادتها، وبهدى من الله العليم، وبسياسات منضبطة بأحكام الشرع الحنيف. فاتباع شرع الله يجنبها ما يسمى بفخ السيولة، أو التسهيل الكمي، أو تخفيض سعر الفائدة لأن كل هذه المصطلحات ليست في قاموس نظام الخلافة الاقتصادي.
رأيك في الموضوع