يكاد يُجمع المراقبون في الشأن الدستوري الداخلي لأمريكا على خطورة الرسالة التي أرسلها سبعة وأربعون عضواً من الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي إلى علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الذي يقف على قمة السلطة في إيران، حيث حذّروا فيها إيران من أن الرئيس الأمريكي أوباما ليس لديه سلطة إبرام الاتفاق معها، وأنّ الكونغرس هو الذي يملك السلطة على توقيع مثل هذا الاتفاق، وهو وحده الذي يملك سلطة رفع العقوبات المفروضة على إيران، وأنّه في حالة توقيع الاتفاق فسوف يتم نقضه بعد انتهاء مدة حكم أوباما.
لقد كان وقع هذه الرسالة على كثير من الأمريكيين كوقع الصاعقة، إذ إنّه لم يحصل أن تم تعدٍّ فاضح على صلاحيات الرئيس في أمريكا بشكل مباشر - ومنذ أكثر من مئتي عام - كما حصل في هذه الرسالة، فهي بالإضافة إلى كونها تحمل إهانة واضحة للرئيس، فهي كذلك تُعتبر سابقة خطيرة للتدخل في صلاحيات أي رئيس مقبل لأمريكا.
وجاء رد الفعل على هذه الرسالة غاضباً وسريعاً على المستويين الشعبي والرسمي؛ فعلى المستوى الشعبي وقّع أكثر من مائة وستين ألفاً من الأمريكيين على عريضة تُطالب البيت الأبيض بملاحقة أعضاء الكونغرس من الجمهوريين الموقعين على الرسالة، ومحاكمتهم، بتهمة الخيانة، استناداً إلى القوانين الأمريكية التي تُجرم أي اتصال بالدول الأجنبية دون المرور عبر القنوات الرئاسية.
وأمّا على المستوى الرسمي فاعتبر البيت الأبيض الرسالة بأنّها عمل طائش وغير مسؤول، وانبرى مسؤولون عدة وزعماء ديمقراطيون للرد على الرسالة فقال نائب الرئيس جو بايدن: "إنّ هذه الرسالة تُهدّد بتقويض قدرة أي رئيس أمريكي مقبل سواء أكان ديمقراطياً أم جمهورياً على التفاوض مع دول أخرى باسم الولايات المتحدة، هي رسالة مضللة وخاطئة بقدر ما هي خطيرة، وهي ليست طريقة لجعل أمريكا أكثر أماناً أو قوة".
وقال وزير الخارجية جون كيري: "إنّها سابقة غير صحيحة ونقض للعهد لم يحدث منذ أكثر من قرنين من الزمن، وهي دلالة تُخبر العالم بأنّه إذا أردتم ضماناً لصفقاتكم مع أمريكا فعليكم التفاوض مع 535 عضواً في الكونغرس، فالاقتراح باطل".
أمّا الرئيس أوباما فقال: "أعتقد أنّه من المثير للسخرية إلى حدٍ ما أن نرى بعض أعضاء الكونغرس يُدافعون عن قضية يشتركون فيها مع المتشددين في إيران ويُشكّلون معهم جبهة مشتركة"، وأمّا هيلاري كلينتون المرشحة البارزة للرئاسة القادمة فاعتبرت بأنّ الرسالة ابتعدت عن التقاليد الفضلى للإدارة الأمريكية وشكّكت بهدف الرسالة وقالت: "إمّا أنّ هؤلاء الشيوخ يُحاولون مساعدة الإيرانيين، وإمّا أنّهم يحاولون الإضرار بأوباما، وفي الحالتين الأمر يضر بالموقعين أنفسهم".
إنّ هذه الرسالة تأتي ضمن صراع محموم على السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين، فبعد أن فاز الجمهوريون بالانتخابات النصفية في شهر تشرين أول/أكتوبر الماضي، وعزّزوا مواقعهم بمجلس الشيوخ بالكونغرس الأمريكي، يُحاولون هذه الأيام الحفاظ على تقدمهم هذا، والتحضير للانتخابات القادمة بكل ما أوتوا من قوة، للعودة إلى السلطة بعد أن حُرِموا منها لمدة فترتين رئاسيتين متتاليتين على يد أوباما، خاصة بعد أن أدركوا أنّ توقيع الاتفاق النووي أصبح في حكم الجاهز مع إيران، وهو ما يُعتبر نجاحاً كبيراً للديمقراطيين، يمكن أن يمنحهم الفوز برئاسة ثالثة لأمريكا، ويحرم بالتالي الجمهوريين لثلاث فترات رئاسية متتالية.
لذلك فالجمهوريون يُحاولون بكل إمكاناتهم وقدراتهم الحيلولة دون توقيع الاتفاق، وذلك إمّا بدفع إيران للامتناع عن التوقيع من تلقاء نفسها، وهو أمر مستبعد، أو بالضغط على إدارة أوباما لمنح الكونغرس صلاحية الإشراف على الاتفاق، وبالتالي العمل على عرقلة تمريره، وهو ما يعكف على فعله الجمهوريون.
ويبدو أنّ رسالة الجمهوريين تلك قد أحدثت ردة فعل عكسية، بحيث إنّ مؤيدي أوباما وحزبه الديمقراطي قد رجحت كفتهم، لا سيما بعد صدور تقرير لوكالة الاستخبارات الأمريكية يصف البرنامج النووي الإيراني بأنّه: "لا يُشكّل خطراً في الوقت الراهن، وأنّه يُعاني من مشاكل فنية وتقنية كبيرة"، وهو ما فاجأ أيضاً بريطانيا وأوروبا ودول الخليج، إضافة إلى كيان يهود، وهي الدول التي تعمل على تصعيد الصدام مع إيران.
ولعل استخدام الحزب الجمهوري لهذه الرسالة التي بلغ بها السجال بين الحزبين الكبيرين ذروته، بحيث اعتبرت خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، لعل ذلك الاستخدام آت من تحسن أداء الرئيس أوباما الاقتصادي لا سيما في ملفي البطالة والرعاية الصحية، حيث انخفضت نسبة البطالة من 10% عام 2009 عند استلام أوباما الحكم إلى 6.1% حالياً، وهو بلا شك تخفيض محسوس أدّى إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية للأمريكيين، وتحسنت معها فرص تمرير مشروع الرعاية الصحية التي يتبنّاها الحزب الديمقراطي، والذي انخرط فيه ملايين الأمريكيين، ووافق عليه رأسماليون كبار لاستفادتهم من عقود التأمين المتعلقة بالمشروع.
فكأنّ هذه الرسالة كانت الورقة الأخيرة أو الرهان الأخير الذي بجعبة الجمهوريين لتحسين فرص إعادة حزبهم إلى السلطة، لكن يبدو أنّهم خسروا الرهان.
رأيك في الموضوع