صرح السفير الصيني في واشنطن سوي تيانكاي؛ في الخامس من الشهر الجاري قائلا: (إن الدولتين تحاولان حل خلافاتهما بشأن التجارة)، لكنه حذر من قوى قال: إنها تسعى للوقيعة بين الجانبين، دون أن يدلي بأي تفاصيل... وقال خلال عشاء استضافه مجلس التجارة الأمريكي الصيني: (إن العلاقات الأمريكية الصينية؛ تمر بمفترق طرق خطير بسبب الخلافات التجارية)، لكنه أوضح أنه من الممكن العودة إلى مسار أفضل... وأضاف: (علينا الحذر من بعض القوى المدمرة، التي تستغل الخلاف التجاري الراهن عبر استخدام خطاب متطرف). وكان الرئيس ترامب قد أدلى بتصريحات مشابهة قبل يوم واحد من تصريح السفير الصيني؛ توحي بوجود عراقيل أمام توقيع مثل هذا الاتفاق؛ حيث قال: (إن اتفاقاً مؤقتاً للتجارة طال انتظاره مع الصين؛ قد يتأجل إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني 2020، وسط تحركات بالكونغرس الأمريكي لمعالجة قضية الإيغور في الصين). فما هي حقيقة هذا الاتفاق وما هي المعوقات والعقبات؛ التي تحول دون توقيعه أو تؤخره؟
الصراع التجاري بين الصين وأمريكا هو صراع قديم؛ تحاول فيه الصين التفلت من تحكمات أمريكا الاقتصادية؛ النقدية والتجارية على وجه الخصوص، وقد قامت الصين في السنوات الأخيرة بأعمال عدة؛ في المجال الاقتصادي (التجاري والنقدي، وفي المؤسسات المالية)؛ للتخلص من هذه الهيمنة الأمريكية وتحكماتها الاقتصادية؛ من ذلك رفع نسبة الربا في البنوك الصينية؛ رداً على رفع البنك الفدرالي الأمريكي لنسبة الرباأربع مرات خلال هذا العام 2019، وقامت الصين كذلك بفرض ضرائب على كثير من الصناعات الأمريكية الواردة للصين؛ وصلت إلى 25% على 50 مليار دولار من الواردات، وفي هذا العام فرضت ضرائب بنسبة 10%؛ ردا على القرار الأمريكي بفرض ضرائب بالنسبة نفسها على منتجات صينية واردة إلى أمريكا. وكانت الصين هدّدت باستبدال الدولار في المبادلات التجارية؛ وخاصة شراء البترول، وقامت أيضا باستبدال قسم من مدخراتها بالدولار، وتحويلها للذهب؛ حيث أضافت إلى احتياطها النقدي ما يقارب 94 طنا من الذهب خلال العام الفائت والحالي (2018/2019)؛ كما ذكرت وكالة بلومبيرغالأمريكية؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب بشكل سريع. هذه الخطوات وغيرها أزعجت أمريكا خاصةوأن الصين عملاق اقتصادي وتجاري؛ يمثل المرتبة الثانية عالميا بعد أمريكا.
وقد ردت أمريكا على هذه التحركات الصينية بأعمال عديدة؛ اقتصادية وسياسية وعسكرية من مثل إثارةالأزمة الكورية والتهديد بالحرب خلال الفترة السابقة، وحشد الأساطيل في المياه القريبة من الصين في بحر الصين الجنوبي؛ لإزعاج الصين، وأثارت في الآونة الأخيرة مسألة الديمقراطية في هونغ كونغ؛ كما ذكر لي تشانشو، رئيس اللجنة الدائمة في مجلس الشعب لعموم الصين؛ (بأن بلاده لديها دليل على تحضير الولايات المتحدة للأحداث الجارية في هونغ كونغ، ووقوفها وراءها)، كما أنها قامت بأعمال اقتصادية عديدة لممارسة الضغوطات على الصين؛من مثل فرض الضرائب على بعض الواردات الصينيةإلى أمريكا بنسبة تصل إلى 25%، ورفعت سعر الرباأكثر من مرة في السنوات القليلة الماضية؛ كان آخرها هذا العام؛ وذلك لتشجيع جلب أموال خارجية، واستثمارها داخل أمريكا، كما أن أمريكا هددت أكثر من مرة بوقف الاستيراد من الصين، إذا استمرت الصين بأعمالها الاقتصادية ضد سياسات أمريكا.
والحقيقة أنأعمال أمريكا تجاه الصين، وأعمال الصين تجاه أمريكا في المقابل؛ ما زالت مستمرة، والهدف منها التوصل إلى تفاهمات اقتصادية (نقدية وتجارية)، وتقديم تنازلات في بنود هذا الاتفاق. ولكن في المقابل فإن هذه السياسات من كلا العملاقين قد أثرت سلبا على اقتصاد البلدين أولا، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام.فقد ذكر كبير الاقتصاديين في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك: (إن الرسوم التي فرضت على شريحة كبيرة من الواردات من الصين وغيرها، بدءا من الصلب، وحتى الغسالات، كلفت الشركات الأمريكية والمستهلكين 3 مليارات دولار في الشهر؛ في صورة تكاليف ضريبية إضافية، يضاف إلى ذلك مليار و400 مليون دولار خسائر؛ بسبب انخفاض الطلب على تلك الواردات). وتوصل بحث آخرمن جامعتي برينستون وكولومبيا، إلى أن المستهلكين الأمريكيين والشركات؛ هم من يدفعون معظم تكاليف الرسوم الجمركية. أما على المستوى العالمي فإن هذه السياسات المتبادلة من العملاقين؛ تؤثر سلبا على الاقتصاد العالمي؛ من حيث إنتاج الصناعات نتيجة ارتفاع الأسعار، وخاصة بسبب فرض الضرائب، وبالتالي يؤثر ذلك سلبا على البطالة، وعلى حركة التجارة العالمية بشكل عام. يقول الخبراء الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي: (إن تصعيد خطوات فرض رسوم جمركية متبادلة، قد يؤدي إلى خفض النمو العالمي بواقع 0.5 في المئة بحلول عام 2020، وأظهرت بيانات منفصلة مؤخرا تباطؤ نمو قطاع الصناعة الصيني في شهر تموز/يوليو، كما تراجع أحد مؤشرات ثقة المستهلك الأمريكي؛ نتيجة مخاوف تتعلق بالرسوم الجمركية، وفقا لتقارير إعلامية).
إن الناظر لموضوع الصراع التجاري، أو ما تسمى في لغة الاقتصاديين (بالحرب التجارية)؛ بين الصين وأمريكا يرى أنها تؤثر سلبا على كلا البلدين، وتحمّل اقتصاد كل منهما الأموال الطائلة؛ وخاصة أن أمريكا تمرُّ في أزمة اقتصادية؛ تتفاقم يوما بعد يوم، وتزداد رقعتها على مستوى الدين العام، ونسبة البطالة، وازدياد الأسعار وغير ذلك من مظاهر تتفاقم. كما أن هذه الحرب تحمّل الاقتصاد العالمي أيضا تبعات وخسائر كبيرة؛ سواء على مستوى الأسعار، أو الإنتاج أو العمالة أو غير ذلك. وهذا ما دعا السياسيين في أمريكا والصين إلى التفكير بتعجيل إيجاد تفاهمات تجارية، وتوقيع اتفاق بينهما. ويظهر الرئيس ترامب بالحنكة والقدرة السياسية؛ مما يخدم الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية القادمة، كما يدعم ترامب بشكل شخصي إذا نجح بالتوقيع ضد هجمات الديمقراطيين، ومسألة التحقيقات الجارية ضده في قضية الانتخابات السابقة، وفي الوقت نفسه ينقذ الاقتصاد الأمريكي من حالة التردي والانحدار المتسارع والمخاطر المنتظرة.
إن موضوع الاتفاق التجاري هو مصلحة مشتركة لكلا العملاقين، ولكن تحيط به عقبات عدة تؤخره؛ منها الضغط من كلا العملاقين لتحقيق أكبر قدر من التنازلات لدى كل منهما؛ كما صرح وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين حيث قال: (إن المفاوضين التجاريين من البلدين يعكفون على الانتهاء من نص اتفاق تجارة مبدئي، ليوقعه الرئيسان الأمريكي والصيني في تشرين الثاني 2019، وقد يتأخر للعام المقبل؛ بسبب ضغط بكين لإلغاء مزيد من الجمارك المفروضة، وتقديم واشنطن مطالب أكثر في المقابل)، ومن العقبات كذلك ما يمارسه بعض الديمقراطيين في الكونغرس، من إثارة لقضايا تجاه الصين؛ كي لا يتحقق هذا الاتفاق قبل مرحلة الانتخابات القادمة؛ منها مسألة الديمقراطية في هونغ كونغ، أو حقوق الإنسان في مقاطعات شينجيانج.. وغير ذلك من ذرائع.
والحقيقة أن هذا الاتفاق المنتظر،وإن كان مصلحة مشتركة لكلا العملاقين، لكنه يقف أمام عقبات وتحديات كبيرة؛ تتخلله لغة التهديد والتحدي أحيانا، ولغة العقل والمصلحة أحيانا أخرى؛ من ذلك ما صرح به الزعيم الصيني شي جين بينغ 22/11/2019: (إن بكين ترغب في التوصل إلى صفقة تجارية مع الولايات المتحدة، لكنها لا تخشى العودة مجدداً للإجراءات الانتقامية)، وما صرح به ترامب بأن نتائج وخيمة على الاقتصاد الصيني ستحصل برفع الضرائب الأمريكية، وتخفيض الواردات الصينية إذا فشل الاتفاق التجاري. حيث صرح خلال اجتماع حكومي في البيت الأبيض 20/11/2019: (بأنه سيزيد الرسوم الجمركية على واردات السلع الصينية؛ في حالة عدم التوصل إلى اتفاق مع بكين لإنهاء حرب التجارة التي هزت الأسواق وأضرت بالنمو العالمي).
فهل تتنازل كلا الدولتين أمام تطلّعات وضغوطات الأخرى؛ لتحقيق هذا الاتفاق المنتظر، أمأن الأمور ستراوح مكانها والمفاوضات ستستمر حتى بعد الانتخابات الرئاسية، وتبقى سياسة العض على الأصابع بانتظار من يصرخ أولا مستسلما وخاضعا لمطالب الآخر؟ وما هي نتائج استمرارية هذه الحالة على اقتصاد البلدين أولا وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام؟
رأيك في الموضوع