كلما أقبلت دورة انتخابية جديدة في تونس يسعى مرشحو النظام الديمقراطي لتصيّد أرصدتهم الانتخابية في أهل البلاد المنسيين فيُقسّمونهم إلى فئات وأهداف: طفولة وشباب وذوي الاحتياجات الخاصة... وللنساء الريفيات نصيب أيضا من خلال رفعهم لشعار - إدماج النساء الريفيات في خدمة الديمقراطية - وهو شعار حقيقة لم يأت من فراغ أو انتهازية آنية بل هو نتاج لسياسة ممنهجة رسمتها يد الاستعمار في إطار توظيف المنظومة الانتخابية لصالح تركيز الرأسمالية.
بداية يجب الانتباه لأهمية الحجم الديمغرافي للنساء الريفيات في تونس. فحسب إحصائيات قدّمها ديوان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري لسنة 2018: (تمثل نسبة النساء في المناطق الريفية ثلث النساء في تونس أي حوالي 32.4%، ونصف السكان في الريف أي 50.2%، وأغلب النساء الريفيات يضطلعن بدور هام في الدورة الاقتصادية حيث إن 43% هن نشيطات في القطاع الفلاحي من أجل تأمين حاجيات عائلاتهن من خلال ممارسة الفلاحة العائلية أو العمل كأجيرة أو معينة عائلية في الزراعة المعيشية وفي بعض الأحيان مالكة ضيعة أو صاحبة مشروع فلاحي).
لكن أغلب هؤلاء النسوة يعملن في ظروف مهينة وقاسية، فحسب دراسة لرابطة حقوق الإنسان سنة 2017، فإن 64% من النساء الريفيات العاملات لا يتمتعن بالتغطية (الاجتماعية)، يعملن دون عقود، ويتعرضن للاستغلال على مستوى قيمة الأجر الزهيدة المدفوعة مقابل عدد ساعات العمل الطويلة، فضلا عما يتعرضن له من تحرش وعنف لفظي وقساوة العوامل المناخية من برد وحر واضطرار للنوم في خيام في فترات الحصاد أمام سوء التغذية لضعف إمكانياتهن المادية، ولزيادة الطين بلة يضطررن لمجابهة ظروف التنقل اليومية المخيفة في شاحنات الموت غير المؤمنة حيث يركبن واقفات بالعشرات لينتهين بالسقوط أشلاء في مجازر جماعية في الطريق بسبب حوادث الاصطدام، آخرها كانت فاجعة السبالة في نيسان/أبريل 2019 التي قتلت فيها أغلب نساء القرية.
وكل ظروف الجوع والجور التي تعيشها النساء الريفيات في تونس هي حقيقة لا تعود كما يدعي المسئولون لغياب الغطاء القانوني الذي يحميها، فبالعكس كل ما يحدث هو مؤطّر بمنظومة قانونية كثيفة متمثلة في كل من:
مجلة الشغل الصادرة في سنة 1966
توقيع تونس دون شروط لاتفاقية المساواة في الأجور سنة 1968
إصدار قانون مناهضة العنف ضد المرأة سنة 2017
وختاما إطلاق منظومة التغطية (الاجتماعية) - احميني - سنة 2019.
إن العاقل المتفكر ليجزم أن منظومة تعمل تحت هذا الكم الهائل من القوانين والتشريعات تعيش فيها النساء الريفيات الفقر المدقع والموت المهين ليست إلا منظومة فاشلة قاصرة عن رعاية الناس وسد حاجاتهم بمن فيهم النساء الريفيات.
وهنا يأتي دور منظمات (المجتمع المدني) الذراع الخبيث للاستعمار حيث تترصد الجمعيات والمنظمات هؤلاء النسوة مستغلات الخصاصة والفقر لقضاء بعض شؤونهن من خلال مساعدات عينية أو قروض بسيطة لبعث مشاريع هشة تتعرض فيها الفلاحة لصعوبات تسويق منتوجاتهن بسبب ضغط وهرسلة الوسطاء.
وهذا الدور رسمته سياسة الاستعمار في إطار الإعلان عن التخلي عن خيار الديمقراطية التمثيلية وتبني خيار الديمقراطية التشاركية الذي رسمه الفصل 131 من دستور 2014 في خطوط عريضة دون الخوض في التفاصيل والآليات، وتمثل الديمقراطية التشاركية جملة من الآليات والإجراءات التي تمكّن من إشراك المجتمع المدني في صنع السياسات العامة وتمتين الدور الذي يلعبونه في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير الشأن العام عن طريق التفاعل المباشر مع السلطات القائمة، سواء على الصعيد الوطني أو - وخاصّة - على الصعيد المحلّي. حيث إن خيار الديمقراطية التمثيلية الذي يقوم على تمثيل الأحزاب للناس لم يعد عمليا بالنسبة للغرب نظرا لعزوف الناس عن الأحزاب السياسية التي لم تعد قادرة على تأطيرهم وصناعة الرأي العام بما يصب في مصلحة الغرب إضافة إلى تجارب الانتخابات الأولى بعد الثورة سواء في تونس أو العالم العربي؛ حيث أدّت الديمقراطية التمثيلية إلى فتح المجال أمام الناس للاختيار فيختارون كل مرة بنسب كاسحة الحركات الإسلامية وهو مشروع تخلت عنه القوى الغربية لخطورته عليهم وعدم ضمانهم للنتائج.
إن الغرب اضطر لانتهاج هذا المسلك الخبيث باستهداف الريفيات الفقيرات وغيرها من الفئات الضعيفة المهمشة كورقة انتخابية رابحة لسبب وحيد وهو صناعة شرعية وإيجاد غطاء سياسي مزيف لوجوده الاستعماري في تونس.
إذن وفي هذا الإطار تأتي الديمقراطية التشاركية كمسهل للمأزق الغربي في بلادنا حيث تتجند المنظمات والجمعيات لاستهداف الفئات الهشة كالنساء الريفيات باستغلال حاجتهن من جهة لتوظيفهن كرصيد أصوات انتخابية ودفعهن للتصويت مستغلين بُعدهن عن الحياة الحضرية وأميتهن وجهلهن بأمور السياسة والوسط السياسي، نذكر مثلا حملة جمعية - عيش تونسي - المشبوهة والتي أشرفت عليها سيدة الأعمال ألفة التراس رومبورغ، الشخصية الغامضة التي دار حولها جدل شعبي من قبيل ارتباط زوجها الفرنسي ببعض الدوائر السياسية الغربية فضلا عن تمويله للحملة الانتخابية لماكرون، وقد ضخّت هذه الأخيرة أموالا ضخمة في مؤسسات وأعمال خيرية مستعملة أسلوبا شعبويا غزا وسائل الإعلام ومختلف الفئات الهشة، وقد كان للنساء الريفيات نصيب فيها حيث استهدفتهم الحملة لتوقيع عريضة - وثيقة التوانسة - مما لم يعد هناك مجال للشك أنها عملية إشهار سياسي مقنع، فالحملة مرتبطة بطموحات سياسية.
وعلى النهج نفسه قام رجل الأعمال المعروف نبيل القروي صاحب قناة نسمة التلفزيونية خلال حملته الدعائية للانتخابات الرئاسية 2019 بتوظيف مؤسسته الخيرية "خليل تونس" لجلب أصوات الناس المهمشة في الأرياف على رأسهم النساء ودفعهم للتسجيل في القوائم الانتخابية بعد أن كانت الانتخابات من دورة إلى أخرى تعاني من العزوف وضعف الإقبال حسب الإحصاءات الرسمية آخرها الانتخابات البلدية 2018، ورغم اعتقال القروي خلال حملته بسبب ملفات فساد قديمة في حركة تكتيكية مشبوهة جاءت أيضا من إحدى منظمات (المجتمع المدني) إلا أن حملته ساهمت في تعزيز الخطة الغربية للديمقراطية التشاركية.
فالديمقراطية الغربية تعيش إفلاسا فكريا ليس في تونس فقط فهي لم تعد تستطيع إقناع البشرية، فالأزمة قد سبق وحصلت في أمريكا في الستينات حين اضطر المثقفون فيها لصناعة الديمقراطية التَشاركيَة كحل ترقيعي ثم تلقّفتها أوروبا سنة 2004 خاصة بعد الأزمة التي هددت الاتحاد الأوروبي بالتفكك حيث أصبحت خيارا أوروبيا، وماكرون ليس إلا مثالا حيا، فهو نتاج لتزكية منظمات (المجتمع المدني) لكن الواقع كان خير ضربة قصمت ظهرهم حيث عرفت فترة حكمه عزوف الشباب عن الانتخابات في فرنسا لينتهي باندلاع ثورة السترات الصفراء.
هذا الواقع الغربي الذي نفض الديمقراطية بجميع أشكالها التي صار واضحا عندهم أنها وسيلة لتركيز البطش الرأسمالي مما دفعهم لطرح سؤال ما البديل؟ فما بالك بخير أمة أخرجت للناس وهي تملك كنز الإسلام الذي لا ينضب؟!
إن الإسلام لا يقسم المجتمع إلى فئات هشة ولا يراها أرصدة انتخابية؛ فهو نظام رباني عادل يعمل على تحقيق الكفاية والرعاية للأمة جمعاء نساء ورجالا، ضعافا وأقوياء، والنساء سواء كنّ في الريف أو في المدينة، غنيات أو فقيرات، ينظر الإسلام لهن كمسؤولية في رقبة الدولة ترعى شؤونهن وتحفظ لهن كرامتهن وأعراضهن.
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55]
بقلم: الأستاذة هاجر بالحاج حسن – تونس
رأيك في الموضوع