بالرغم من إظهار البهجة في الشوارع عقب توقيع كل من المجلس العسكري و"قوى الحرية والتغيير" في الخرطوم، يوم السبت 17/08/2019م، على اتفاق نهائي يضم إعلانين؛ سياسي ودستوري، يمهدان لتشكيل حكومة انتقالية تدير البلاد لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، بالرغم من ذلك، لا تزال صفوف الخبز الطويلة تنتظم أفران الخرطوم، وصفوف الخبز هذه هي التي تولدت منها الشرارة الأولى التي أشعلت المظاهرات التي أدت إلى سقوط البشير. فما هي حكاية السودان مع القمح؟ وما مدى ارتباط القمح بالقرارات السياسية؟
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتراجع الدول الأوروبية، وخروج أمريكا من عزلتها، وتخطيطها لاستبدال الاستعمار القديم بوجهه العسكري، فكرت أمريكا في فائض الإنتاج من القمح الذي كانت تلقي به في البحر للحفاظ على أسعاره من الهبوط فلجأت إلى الاستفادة منه في استعمار الشعوب كما ذكر د. أحمد عبد الملك أستاذ القانون بجامعة صنعاء: (الحبوب بشكل عام سلاح استراتيجي تستخدمه القوى المتصارعة حيث أصبحت هذه السلعة ضمن الأسلحة في الحروب الباردة)، وإذا عدنا للماضي نجد أن اليمن كان في حكم الاكتفاء الذاتي، بل ويصدر قمحه للخارج، ووقتها دخلت أمريكا على الخط وصدرت مساعدات كثيرة من القمح لليمن تحت عنوان مساعدة من الشعب الأمريكي، وطرحت كميات كبيرة لتنافس بذلك القمح المحلي وبسعر زهيد، مما دفع المزارعين لهجر مزارعهم، والتوجه نحو المدن، ومن ثم قطعت المساعدات وأصبح اليمن مستورداً للقمح، وقد استخدم كوسيلة ضغط لتمرير سياسات أمريكا في اليمن، وحينما فكر اليمن بالرجوع لزراعة القمح وجد نفسه مكبلاً باتفاقيات دولية كما قال المهندس علي عبد الكريم: (إن بلادنا ملتزمة أمام المنظمات الدولية بعدم إنتاج القمح مبررين ذلك أن بلادنا شحيحة بالمياه، وأن تكاليف إنتاج القمح أكثر من تكاليف القمح المستورد)، وهذه حقائق استغلتها المنظمات الدولية التي لا يعنيها تحرر البلاد من الهيمنة والنفوذ الخارجي، والسعودية تسير في طريق اليمن فبعد أن حققت الاكتفاء الذاتي وشرعت في تصدير القمح وذلك بأمر من الملك فيصل، ها هي الآن تتراجع في إنتاج القمح بحجة شح المياه الذي أشارت به المنظمات الدولية، وكذلك مصر التي تركت زراعة القمح واستبدلت به القطن بتشجيع من أمريكا، وقد خصصت أمريكا مبلغ 200 مليون دولار لمساعدة المستوردين للقمح الأمريكي في كل من مصر والأردن.
أما في السودان وفي كثير من البلاد الأفريقية فيختلف نوعا ما، فأهل السودان لم يكونوا يعتمدون على القمح في غذائهم، ففي حلقة دراسية بأكاديمية الأمن العليا خصصت للتخطيط الإعلامي، أن دراسة علمية أشارت إلى أن السودان في العام 1950م كان يستهلك الذرة كغذاء رئيسي بنسبة 100% وبعد أن دخلت المعونات الأمريكية انخفض ربع الاستهلاك في العام 1960م ليصل في العام 2014م لحدود 5.5% ويقول الخبير الاستراتيجي د. جمال رستم إن إنتاج القمح في أمريكا أكبر من استهلاكها فلجأت لتغيير النمط الغذائي في العالم، ليتوافق مع استراتيجيتها، وأضاف رستم، إن الاستراتيجية الأمريكية بدأت في العام 1949م عبر تقديم القمح كمساعدات غذائية وتوفير تكنولوجيا للطحين لا تتلاءم إلا مع القمح الأمريكي، وتشير مصادر مطلعة إلى أن منظمات الإغاثة الأمريكية استجلبت للنازحين في دارفور قمحا، ولكن الناس المحليين لم يقبلوا به فطلبت منهم السلطات المحلية بيعه واستبدال الدخن به فما كان من المسؤول الأمريكي سوى أن قال: (ينبغي أن يأكلوه). ويتفق مع الحديث السابق الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم كبج الذي تساءل عن استبدال الدخن بالقمح مروجاً أن ذلك في سياق إحكام سيطرة القوى العالمية الغربية تحديدا على القرار السوداني واستعماره، مستدلا أن الدول الغربية تدعم القمح بما قيمته 350 مليار دولار في العام، وقد كان السودان يستورد في العام 250 ألف طن فقط، وفي عام 2012م استوردنا مليونين وخمسائة ألف طن من القمح، وقد قال عبد الله مسار رئيس لجنة الصناعة والاستثمار والتجارة في المجلس الوطني (إن القمح سلعة سياسية).
وأخيرا انتفض أهل السودان ضد الظلم والطغيان، يريدون أن ينعتقوا من التبعية والذل وأطاحوا بنظام البشير، ولكنهم وجدوا أنفسهم داخل مصيدة القمح التي نصبتها لهم أمريكا قبل عشرات السنين، وهم يتوقون للخروج منها، فإذا بالسعودية والامارات تقدمان 540 ألف طن وهما أيضاً داخل المصيدة وفي أمس الحاجة للقمح، وهو خبز مسموم والقليل يعلم أنه مسموم، فقد وصف وزير المالية السابق عز الدين إبراهيم المساعدات بـ(المؤقتة إلى حين يتفرغ السودان إلى الإصلاح الاقتصادي والاعتماد على النفس)، وأشار إلى أن هذا الحل يحل الضائقة الراهنة في الخبز ويوفر للحكومة السودانية نقداً أجنبيا بقيمة 700 مليون دولار سنوياً كان مخصصاً لاستيراد القمح)، وألمح إلى وجود ثمن سياسي خلف هذه المساعدات التي تقدم للسودان فقال: (أي دعم يقدم لا بد أن يرتبط بمقابل)، في حين حذر الأكاديمي في جامعة الخرطوم البروفيسور إبراهيم أونور في حديث سابق مع (العربي الجديد) من دخول مثل هذه المنح إلى البلاد على الرغم من آثارها الإيجابية على الاقتصاد السوداني، وقال إن هذه المساعدات تثير المخاوف من عدم تحقيق الاستقرار في السودان، وأكد أونور على أنه لا توجد مساعدات من دون مقابل وهو ما يشير إلى احتمال حدوث تبعات تؤجج الوضع السياسي.
إن هذه الدول نذرت نفسها للوقوف في وجه أي عمل يسعى لانعتاق الشعوب وتملكها لإرادتها، فقد دعمت نظام السيسي في مصر بمقدار 50 مليار دولار بالرغم من أنه قتل المئات وسجن الألوف، وكما وصفها عبد العزيز جباري نائب رئيس البرلمان اليمني إن قيادة تحالف الإمارات والسعودية ذبحت الشرعية وخاطبهم قائلاً: (لقد ذبحتم الشرعية من الوريد إلى الوريد ولم يفعل الحوثي مثلما فعلتم بها)، وكما يدعمون مجرم الحرب حفتر ليبيا الذي يحاصر مدينة طرابلس ويرمي فوق رؤوس ساكنيها الحمم! ولنا أن نتساءل ما هو السم الذي أدخلوه لنا مع رغيف الخبز الذي قدموه؟!
إن امتلاك أي أمة من الأمم لإرادة حقيقية تكفل لها اختيار النمط الذي تريده في عيشها إنما يحتاج إلى وعي سياسي وعزيمة قوية تستسهل بها كل الصعاب، من أجل الوصول إلى الطريق الذي يحقق النهضة الصحيحة، وهذا لا يتأتى إلا بفكرة سياسية يلتف حولها السياسيون والأمة معاً، إن الرغبة والحماس وحدهما لا تكفيان للوصول إلى الغاية المنشودة فهي غاية تسير في الاتجاه المعاكس للسياسة الدولية وأصابعها الإقليمية. ومن هنا كانت العقيدة الإسلامية هي الأقدر على خوض هذه المعركةأنهيبهأأتسبلتل
والخروج منتصرةً بإذن الله لصحة الفكرة وصدقها، وبوعي الرجال.
رأيك في الموضوع