إن الأوضاع السياسية في المنطقة، والمتغيرات التي رافقت قيام كيان يهود الغاصب على أرض فلسطين معلومة، وكذلك الظروف التي أُنشئت بها الدول الوظيفية في البلاد الإسلامية ككل، ومنها الدول العربية بشكل خاص معلومة أيضاً، والتي تمثلت بإسقاط دولة الخلافة العثمانية، عبر مخططات استعمارية نفذها الغرب الكافر وعلى رأسه بريطانيا في ذلك الوقت، وبتعاون من خونة العرب والترك.
وفي إطار منع إقامة الخلافة من جديد، ومنع توحيد الأمة في كيان واحد، وعدم تطبيق الإسلام في الحياة، ووقف فاعليته على الساحة الدولية، وتشكيل النظام العالمي، الذي تربعت على عرشه الدولة الإسلامية بوصفها الدولة الأولى في العالم ما يربو عن الألف عام، من أجل ذلك كله وأكثر كان زرع كيان يهود كغدة سرطانية قاتلة في جسد الأمة، وقاعدة عسكرية متقدمة للغرب، مجهزة بأحدث التقنيات، وأكثر الأسلحة فتكاً، كما بُثت في الأمة مفاهيم الوطنية والاستقلال المزيف، وتشكلت الدول الوطنية تعبيراً عن ذلك، وتكريساً لفرقة الأمة، وإمعاناً في تمزيقها، ونُصب على رأس كل دولة حكام رويبضات، لا هم لهم إلا حماية كيان يهود والمحافظة على مصالح أسيادهم من الكفار المستعمرين.
في هذا السياق جاء تشكيل المنطقة وبناء خارطتها السياسية، وحكام البحرين مثلهم مثل باقي أقرانهم من النواطير يدركون حقيقة وجودهم، والدور المنوط بهم، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية البحريني، خالد بن أحمد آل خليفة بصريح العبارة، ودون مواربة في حوار مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، إن (إسرائيل) موجودة وباقية ونريد السلام معها. معتبراً أن مبادرة السلام العربية جاءت في إطار التعبير عن قناعة حكام العرب وإيمانهم بالسلام مع كيان يهود وإن أخفى بعضهم ذلك، كما أن الحكام حريصون كل الحرص على أداء دورهم الوظيفي على الوجه الذي يُرضي عنهم أسيادهم ليبقوا عليهم، وعلى سلطانهم، وهو ما يفسر انغماس أولئك النواطير في مشاريع الغرب دون قيد أو شرط، ولا أدل على ذلك مما جاء على لسان الرئيس الأمريكي ترامب في مكالمة هاتفية مع الملك سلمان: "أيها الملك، نحن نحميك، ربما لا تتمكن من البقاء لأسبوعين من دوننا، وعليك أن تدفع".
إن الحكام يدركون والأمة تدرك أنه لولا خيانة الحكام ما كان لكيان يهود أن يقر له قرار في الأرض المباركة فلسطين ولو ساعة من نهار، إلا أنه وعبر ألاعيب السياسة والحروب المسرحية، تلقت فيها الأمة الضربات، وخاضت تجارب فاشلة بهدف إقناعها بعدم قدرتها على المواجهة، وضرورة القبول بالأمر الواقع، حتى بات الحديث عن زوال كيان يهود ضرباً من الخيال، والتفكير به خارج دائرة الكون، فطرحت الحلول الاستسلامية التي تجعل من كيان يهود جزءاً طبيعياً من تكوين المنطقة، وبدأت مسيرة التصفية للقضية تحت مسميات كثيرة وعناوين مختلفة؛ حل الدولة الواحدة، وحل الدولتين، واستكمالا لمساعي التصفية والإنهاء على القضية تأتي رؤية ترامب والتي أحاطها هو والفريق المسؤول عن الخطة بشيء من الغموض والبهرجة، رغبة في تسويقها على أكبر مستوى حتى باتت تعرف بأنها صفقة القرن، وكأنها الخلطة السحرية التي تشفي جروح المنطقة، والحقيقة أنها لا تختلف في جوهرها عن سابقاتها من الخطط والمبادرات، فجميع تلك الرؤى تجعل من وجود كيان يهود، وحفظ أمنه حجر زاوية، وأمراً خارج دائرة النقاش، وكل ما يطرح بخصوص حقوق أهل فلسطين يأتي في إطار الترضية التي تتكفل بها الأنظمة الوظيفية في بلاد المسلمين، وهو حقيقة ما تقوم به هذه الأنظمة طوال السنوات الماضية من عمر قضية فلسطين، وهو عين ما جاءت به الورشة الاقتصادية التي عقدت في البحرين الأسبوع الماضي، والتي دعت إليها أمريكا، وقادها مستشار الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنير، الذي زعم في تصريح له أن "مؤتمر البحرين يُظهر أن مشكلة الشرق الأوسط يمكن حلها اقتصادياً".
جدير بالملاحظة أن كل ما يخاض به من حلول ومبادرات فشلت في تحقيق أهدافها في تصفية قضية فلسطين، ما يستدعي الدراسة والعبرة من جانب، ومن جانب آخر يظهر مدى جهل أصحاب تلك الحلول والمبادرات بطبيعة القضية، فقضية فلسطين ليست قضية إنسانية تعالج ضمن مشاريع المساعدات والتنمية، وليست قضية نزاع حدودي ينتهي بترسيم الحدود، إنما هي قضية ترتكز في وجودها على أساس العقيدة الإسلامية، وهي بذلك ترتبط بعقيدة مليار ونصف المليار مسلم يعيشون حول العالم اليوم، وبمن سبقهم ومن سيلحق بهم من الأجيال إلى أن تقوم الساعة، فهي قضية إسلامية، ستبقى حية في نفوس المسلمين ما دامت السماوات والأرض، وما دامت سورة الإسراء تتلى، وتحفظ في الصدور، وما جرأ ترامب ومن خلفه كوشنير وغرينبلات على اعتبار رشوة بـ 50 مليار دولار كافية لشراء ذمة أهل فلسطين، ومن ورائهم الأمة الإسلامية فيبيعون فلسطين بثمن بخس، ما جرأهم هو أنهم لم يجدوا في حكام المسلمين من يقف لهم موقف الصحابي الجليل والقائد المظفر خالد بن الوليد حين حاوره هامان قائد الروم قائلا له: (قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فإن شئتم أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً، وترجعون إلى بلادكم، وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها!). فرد سوء أدبه قائلاً: (إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمنا أنه لا دم أشهى ولا أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك). وإن اليوم الذي تُزلزل الأرض من تحت أقدام يهود فتخسف بهم وبكيانهم قريب بإذن الله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾، ولن تغني عنهم يومئذ قوى العالم أجمع ولا رويبضات المسلمين.
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع