ظل ماراثون التفاوض بين المجلس العسكري الانتقالي، وتجمع قوى الحرية والتغيير، بين شد وجذب، كل طرف يسعى لجني أكبر مكاسب حتى كان يوم الاثنين الثامن من رمضان، حيث دخل الطرفان في مفاوضات استمرت لأكثر من خمس ساعات، بعدها صرح الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الفريق الركن شمس الدين كباشي، في مؤتمر صحفي أن المفاوضات جرت في أجواء سادتها روح التفاؤل بالوصول إلى اتفاق، مؤكدا توصل الطرفين لاتفاق مبدئي حول هياكل السلطة السيادية والتنفيذية والبرلمان، والمفوضيات وسلطات القضاء، وأن التفاوض سيستمر للاتفاق على النسب في المجلس السيادي، ومدة الفترة الانتقالية.
ولكن لم تمض ساعات من هذا الكلام المعسول، وفي مساء اليوم نفسه تبدلت الأحوال، وتغيرت المواقف، وتحركت الأحداث نحو العنف، والقتل، ودوي صوت الرصاص، وسقط بعض المعتصمين، بين قتلى وجرحى، عقب هذه الأحداث الدامية، بدأ البحث عن الجاني وتوجهت أصابع الاتهام إلى قوات الدعم السريع، وقال شهود عيان إن الذين أطلقوا الرصاص كانوا يتزيون بزي قوات الدعم السريع، إلا أن قوات الدعم السريع أصدرت بيانا نفت فيه أي صلة لها بما حدث في ميدان الاعتصام من قتل وجرح، وألقت باللوم على جماعات لم تسمها تتربص بالثورة، قامت بهذا العمل البشع بعد أن أزعجتها النتائج التي تم التوصل إليها مستشهدة في ذلك بأن هناك قتيلا من القوات المسلحة هو الرائد كرومة واثنين من الجرحى من قوات الدعم السريع، ووسط هذه الأحداث الدامية كذلك أصدر تجمع المهنيين - أحد مكونات قوى الحرية والتغيير - نداءً عاجلاً دعا من خلاله الثوار للتصعيد ومواصلة الاحتشاد والاعتصام داخل القيادة العامة، حراسة للمكتسبات واستنصارا لدماء الشهداء، وأضاف البيان: ستتواصل المحاولات لهزيمة واختطاف الثورة السودانية ولن يثنيها عن ذلك سوى تماسكنا والتحامنا الجماهيري والتزامنا الكامل بالسلمية والوحدة. بعد ذلك تصاعدت الأحداث وبدأت الاتهامات من قوى الحرية للمجلس العسكري بأنه يريد فض الاعتصام بالقوة، مما حدا بالمعتصمين قفل الشوارع داخل الخرطوم وبخاصة شارع النيل الذي يعتبر المنفذ الوحيد بعد إغلاق أغلب مداخل الخرطوم، مما أوجد حالة من الإرباك والاختناق المروري، عندها أعلن المجلس العسكري تعليق التفاوض عبر بيان تلاه رئيس المجلس العسكري الفريق الركن عبد الفتاح البرهان وكان بيانا شديد اللهجة حمل فيه تجمع قوى الحرية والتغيير مسؤولية ما يحدث من تصعيد، ثم قرر وقف التفاوض لمدة 72 ساعة حتى تتهيأ الظروف لاستئنافها، مطالبا قوى إعلان الحرية والتغيير بإزالة المتاريس خارج ساحة الاعتصام، وفتح خط سكة الحديد وعدم التصعيد الإعلامي، وتهيئة المناخ الملائم الذي يؤمن الشراكة، وعدم التحرش أو الاستفزاز للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع والشرطة والأمن.
هذا البيان جعل الطرف الآخر يستشعر الخطر خاصة وأن أمريكا عبر المجلس العسكري استنفرت مجموعات ضغط حيث قامت يوم الجمعة 12 رمضان مجموعات خرجت من بعض المساجد استجابة لتيار نصرة الشريعة ودولة القانون قامت بتظاهرات عقب صلاة الجمعة ثم تقاطرت يوم السبت معتصمة بساحة القصر الجمهوري وأقاموا مأدبة إفطار وظلوا حتى ساعة متأخرة من الليل رافضين للاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، كما بدأت تكتلات مناوئة لقوى الحرية والتغيير في التشكل مثل تجمع الوفاق والجبهة الوطنية وتحالف قوى السلام والعدالة وغيرها، وكلها تساند المجلس العسكري وتقف ضد قوى الحرية والتغيير... هذه الأعمال جعلت قوى الحرية والتغيير في موقف حرج مما دعاها لإزالة المتاريس خارج نطاق الاعتصام وفتح مسار القطار. وفي مساء السبت 13 رمضان أعلن المجلس العسكري استنئاف الحوار يوم الأحد 14 رمضان، وكان وفد تجمع المهنيين قد ناقش مع ممثلين للبعثات الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي لدى الخرطوم تطورات العملية السياسية بالبلاد والتحركات التي يقوم بها المجلس العسكري، وبالمقابل اجتمع مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الأفريقية يتيبور ناجي مع ممثلين عن الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والنرويج لتنسيق الجهود بهدف حض الأطراف على إيجاد اتفاق بأسرع وقت ممكن حول حكومة انتقالية تكون انعكاسا لإرادة السودانيين.
إن مساعد وزير الخارجية الأمريكي يتدخل حتى في التفاصيل عندما يقول رجعنا مع شركائنا بالاتفاقات الأخيرة بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة المدنية فيما يتعلق بالمؤسسات الجديدة، فهو يثبت المجلس العسكري باعتباره حكومة والجانب الآخر باعتباره معارضة عندما يقول (المعارضة المدنية)...
هذا هو المشهد في السودان يؤكد الصراع الدولي بين أمريكا وعميلها المجلس العسكري والقوى التي تؤيده من ناحية وبين أوروبا وبخاصة بريطانيا وعملائها أحزاب قوى الحرية والتغيير من ناحية أخرى. وقد كان واضحا في الفترة الأولى موقف أمريكا ومجلسها العسكري الضعيف أمام بريطانيا وتجمع قوى الحرية والتغيير الذي يستقوي بالمعتصمين، إلا أن أمريكا وهي دائما تتعامل بعنجهية لن ترضى بأن يذهب السودان من أيديها حتى لو استخدمت القوة المفرطة كما حدث يوم الاثنين 8 رمضان وكما حدث من قبل في مصر السيسي، وهي الآن في موقف أقوى تدخل به التفاوض مع قوى الحرية والتغيير.
إن الخاسر الوحيد من كل الذي يجري في السودان هم أهل السودان الذين ظلوا لما يقارب الستة عقود عقب خروج الكافر المستعمر الإنجليزي يعيشون في هذا الصندوق الذي وضعنا فيه الكافر اللعين، فنحن من حكومة منتخبة (أحزاب) إلى حكومة عسكرية، فثورة شعبية، ففترة انتقالية، فحكومة منتخبة... وهكذا كل نظام هو أسوأ من الذي سبقه لأن المنبع الآسن الذي يأخذون منه الأنظمة والتشريعات واحد هو هوى الكفار المستعمرين، والله سبحانه وتعالى قرر أن أي نظام غير نظام الإسلام هو ظالم وفاسق بل وكافر عندما قال سبحانه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الفاسقُونَ﴾ وقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الكافرونَ﴾ وقد كان ذلك عمليا في كل الأنظمة التي مرت على هذا البلد أنها أنظمة ظالمة وفاسدة جعلتنا نعيش الحياة الضنكا كما قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.
فيا أهل السودان! لن يخرجنا من هذه المعيشة الضنكا لا حكومة عسكرية ولا حكومة مدنية، وإنما المخرج الوحيد هو الخلافة، التي تطبق شرع الله القويم، فيفتح الله علينا بركات من السماء والأرض ويرضى عنا كما رضي عن السابقين الأولين الذين التزموا بمنهجه وحكموا بما أنزل على رسولهe، فعاشوا أعزاء كرماء سادوا العالم، فكانت دولتهم هي الأولى رحمة وعدلا. كما نوجه رسالة نصح صادقة إلى أولئك الذين يرفعون الآن شعار نصرة الشريعة، نقول لهم إن كنتم صادقين فإن دولة الشريعة هي الخلافة الراشدة على منهاج النبوة وليست جمهورية مدنية أو عسكرية، وأنتم تعلمون من هم الذين يعملون لإقامتها فضعوا أيديكم على أيديهم لإقامتها تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع