بات الصراع في ليبيا مفضوحا، كونه دوليا بين قوى استعمارية أمريكية وأوروبية، وأدواته إقليمية ومحلية، والأدوات الإقليمية ظاهرة فيمن تدعم: فمصر والسعودية أتباع أمريكا تدعمان حفتر، وكذلك روسيا لأنها تمسك بذيل أمريكا في قضايا الشرق الأوسط، فتكون أداة كالأدوات الإقليمية. وأما الجزائر وتونس والمغرب وقطر؛ أتباع أوروبا، فإنها تدعم السراج. والإمارات مندسة على عملاء أمريكا تلعب دورا خبيثا لصالح الإنجليز. وكثير من الجماعات المحلية تقاتل بجانب هذا الطرف أو ذاك بدوافع مختلفة يضربون رقاب بعضهم بعضا لصالح عملاء الاستعمار! هذه هي الصورة القاتمة للوضع الحالي في ليبيا.
فأوروبا تدعم السراج وهي التي أتت به بعدما طبخت بريطانيا اتفاق الصخيرات عام 2015. ولكن فرنسا تريد أن تمسك العصا من الوسط فتعمل على تقوية علاقاتها مع حفتر وتبقي على علاقاتها مع السراج. فقد جمعتهما في باريس وعقدت اتفاقا بينهما يوم 25/7/2017 لوقف القتال وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية. ولكن لم تتمكن من تنفيذ الاتفاق، لأنها ليست قادرة على ذلك منفردة، بسبب وجود قوى استعمارية أخرى تنافسها. وقد استقبلت السراج يوم 8/5/2019 الذي قام بجولة أوروبية شملت روما وباريس وبرلين لتلقي الدعم الأوروبي. وأعلنت أن رئيسها ماكرون سيستقبل حفتر الأسبوع القادم للتوصل إلى وقف القتال في ليبيا، أي للضغط عليه ليوقف حملته على طرابلس.
وذلك بعد اجتماع رئيس وزراء إيطاليا كونتي مع حفتر يوم 16/5/2019 في روما لساعتين. فأعلن كونتي أنه دعا حفتر إلى وقف القتال حتى يمكن السير في الحل السياسي. فيعني أنه قام بالضغط عليه لوقف هجومه على طرابلس. علما أن كونتي اجتمع أولا مع السفير الأمريكي في إيطاليا قبل اجتماعه مع حفتر. حيث إن إيطاليا رغم سياستها الأوروبية تقوم بالتنسيق مع أمريكا في ليبيا لتحقيق مصالحها، وهي تدرك تأييد أمريكا لحفتر.
فقد أدركت فرنسا وإيطاليا أنه لا بد من توافقهما وإلا فإنهما سيخسران تجاه أمريكا. ولهذا جاء اجتماع وزيري خارجيتهما يوم 13/5/2019، وذلك بعد التناكف بينهما بسبب تكالبهما على نهب ثروات ليبيا وموضوع الهجرة. حيث تستأثر إيطاليا بالاستثمارات النفطية في القسم الذي تسيطر عليه حكومة السراج، وفرنسا تطمع بأخذ الاستثمارات النفطية في المنطقة التي يسيطر عليها حفتر، وهي تخشى على نفوذها في تشاد بعدما سيطر على جنوب ليبيا.
ولهذا أشاد وزير خارجية فرنسا لودريان بدور حفتر في حربه على (الإرهاب) قائلا لصحيفة لوفيغارو يوم 2/5/2019: "أنا أؤيد كل شيء يخدم أمن فرنسا والدول الصديقة لها ولحلفائها". وقالت صحيفة لاكروا الفرنسية يوم 10/5/2019: "ماكرون كعادته يجيد اللعب مع الطرفين، ففي الوقت الذي أكد فيه دعمه للسراج خلال لقائهما في 8 أيار ورفضه للحل العسكري يدعم حفتر لوجيستيا واستخباراتيا". وقالت الصحيفة: "فرنسا ومصر والسعودية والإمارات أهم الداعمين لحفتر، إذ تعتبر سنده العسكري والسياسي من أجل القضاء على الإسلام السياسي أولا، وتمكين مصالح هذه الدول النفطية من الاستفادة منها ثانيا".
وكشفت أمريكا عن دعمها لحفتر بإعلان البيت الأبيض يوم 19/4/2019 أن ترامب تحدث هاتفيا معه. وذكر البيان أن ترامب "اعترف بدور حفتر الجوهري في مكافحة (الإرهاب) وتأمين موارد ليبيا النفطية". وأنه خلال المكالمة الهاتفية "ناقش الاثنان رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي مستقر وديمقراطي".
ونقلت الجزيرة يوم 2/5/2019 عن مصادر في حكومة السراج أن "القوات الأمريكية عادت إلى العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة في إطار التعاون الأمني مع الحكومة". فنقلت تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة مهند يونس قوله: "إن الحكومة تعمل على تعزيز وتكثيف أوجه التعاون المختلفة مع أمريكا والتي منها عودة قوات أفريكوم. وإن التعاون مع أمريكا في مجال مكافحة (الإرهاب) مستمر ولم يتوقف". وكانت قيادة أفريكوم قد أعلنت يوم 7/4/2019 سحب قواتها من ليبيا وذلك بعد هجوم حفتر على طرابلس بثلاثة أيام، متذرعة يومها أنها "أقدمت على هذه الخطوة بسبب اضطراب الوضع الأمني". حيث إن أمريكا أعدت لحفتر خطة هجوم على طرابلس لئلا تسبب قواتها بإحراج، فعندما صد هجوم حفتر عن طرابلس، أعادت القوات إلى أماكنها مما يدل على مدى خيانة حكومة السراج وتخاذلها، وهي تدرك أن أمريكا تضغط عليها بهذا الهجوم حتى تقبل بحفتر، وهي تقبل بوجود قوات أمريكية بذريعة محاربة (الإرهاب) حتى ترضي أمريكا!
ونقلت الجزيرة عن متحدثة باسم الخارجية الأمريكية قولها: "إن مسؤولين حكوميين أمريكيين يتشاورون مع طائفة واسعة من القادة الليبيين فضلا عن عدد من الشركاء بشأن الأزمة الليبية" وقالت: "إن الغاية من المشاورات هي الضغط لإعادة الاستقرار وجلب السراج وحفتر إلى طاولة المفاوضات". فأمريكا بعد إعلان دعمها لحفتر تضغط على حكومة السراج لتفاوضه وتقبل بإشراكه في الحكم، ولتقنع الليبيين به. وبذلك يسقط اتفاق الصخيرات البريطاني. فيظهر أن الأمور تؤول إلى ذلك حتى يصبح حفتر معترفا بشرعيته كقائد ليبي، فيمهد لبسط النفوذ الأمريكي في ليبيا. لأنه لو سيطر حفتر على طرابلس سيبقى غير معترف به ويبقى مغتصبا للسلطة وسيعمل الناس على إسقاطه كما أسقطوا قرينه القذافي.
فيتبين أن الصراع في ليبيا لهدفين؛ أولا: منع عودة الإسلام إلى الحكم، فيعبرون عنه بمسميات محاربة (الإرهاب) و(التطرف) والإسلام السياسي. والهدف الثاني: الموارد النفطية فيتسابقون على سرقتها تحت مسمى الاستثمار.
إن أفدح خطأ ارتكب في ليبيا هو القبول بتدخل القوى الاستعمارية باسم الناتو، وارتباط الأطراف المحلية بها وبالدول الإقليمية التابعة لها. وهذا ينطبق على كل بلد، فالاستعانة بالأجنبي أو بالدول التابعة لهو انتحار ودمار، لا يدركه البراغماتي الانتهازي الذي لا يفكر إلا في انتهاز الفرصة لتحقيق مصالحه الذاتية حسب الظروف المؤاتية مستعينا بأي قوة تسنده مهما كانت، فلا يفكر في مصير البلد ولا في مصير الأمة ولا في مصيره في الآخرة. فهو بعيد عن الفكر والتفكير يستهزئ بالمبدئية، فهو يرهن إرادته للداعمين ويضع مصيره وبلده بأيديهم، ولا يعبأ بوصفه عميلا ومواليا للكافرين. وهكذا يجري التسابق بين حفتر والسراج لطلب الدعم الأجنبي. ولا بد للمخلصين أن ينشطوا بين الناس لتوعيتهم وقيادتهم حتى يسقطوا العملاء وأسيادهم وينصروا الله فينصرهم.
رأيك في الموضوع