في 11 نيسان/أبريل، وفي اليوم السادس للاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة، أعلن وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف، في كلمة بثها التلفزيون الرسمي، اعتقال الرئيس عمر البشير، والتحفظ عليه "في مكان آمن"، و"تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة حكم البلاد لفترة انتقالية مدتها عامان". من جانبهم اعتبر منظمو الاحتجاجات أن البيان "انقلاب عسكري". (وكالات).
بدأ عمر البشير حكمه بانقلاب عسكري سنة 1989م، رفع فيه شعارات الإسلام، والتي التف حولها الناس بصورة متسارعة، بيد أن ذلك البريق الذي بدأ به البشير حكمه، أخذ يخبو رويداً رويداً، وتتحطم صورته الإسلامية على صخرة الواقع المر، من سحق للمعارضة، وتغول على أدوات القمع، الشرطة وقوات الأمن، وانحطاط الأوضاع الاقتصادية، وتوقف عجلة الإنتاج في كافة المجالات، وسيطرة الحزب الحاكم ورجال أعماله على مقدرات البلاد، والفساد المستشري... وبعد ثلاثين عاماً من الحكم الظالم، أصبح فيها البشير الحاكم المنفرد بالسلطة، بدأ في إعداد العدة والخطط للترشح لانتخابات العام 2020م، وهذا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير خاصة مع استمرار الأوضاع الاقتصادية الخانقة، التي جعلت الشعب لا يملك إلا خياراً واحداً، وهو التحرك ضد حكم البشير وإسقاطه.
وخرجت الجموع في الشوارع، منذ 19/12/2018م، مطالبة بحياة كريمة، وهي تردد الشعار الشهير (كيلو السكر بقى بكم يا عسكري ما عندك دم)، وغيرها من الشعارات، لكن قابلتها قوات الأمن بقمع غير مسبوق، ما أدى إلى سقوط قتلى في المظاهرات، وهي ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، لكن هذه المرة اشتعل الموقف وارتفع سقف المطالب ليصبح "تسقط بس"، وهو المطلب الذي أسقط البشير بعد خمسة أيام من الاعتصام أمام مبنى القوات المسلحة، صاحبتها اعتصامات أخرى اجتاحت البلاد، ليعلن بعدها ابن عوف بيانه الأول، ولم يمكّنه الثوار من إذاعة البيان الثاني فسقط.
كانت لحظة الانقلاب، لحظة فارقة في وعي أهل السودان، انتظروا فيها بيان المجلس العسكري بفارغ الصبر وهم يفتحون باب الآمال على مصراعيه، بيد أن المسار الذي أجبر بيان اللجنة الأمنية الثورة على اتخاذه لم يكن يبشر بأي خير، وبدا أن سياسات اللجنة الأمنية، وهي مجموعة الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع، لم تحظ بالتأييد، والأكثر إثارة للجدل، هو أن البيان لم يقدم بأنه من القوات المسلحة السودانية، مما يوحي بالريبة بأن هذه اللجنة الأمنية هي إعادة تدوير للنظام السابق نفسه، ولملمة أشلائه، بوجود عوض بن عوف رئيساً، وهو الذي سرب عنه أنه من مؤيدي فض الاعتصام بالقوة، حتى لو مات الناس، ثم إنه لم يحدد مصير البشير، ولم يتحدث عن تقديمه للمحاكمة جراء الجرائم التي ارتكبها هو وزمرته، ما عجل بالمواجهة بين اللجنة العسكرية، بقيادة ابن عوف، وبين الشباب الثائر منذ اللحظات الأولى من إذاعة بيان الانقلاب، وقد صدم الجميع، وأبدوا تشاؤماً كبيراً، وعلى رأسهم تجمع المهنيين، وقوى إعلان الحرية والتغيير، وحزب المؤتمر السوداني، وحزب الأمة، وغيرها من القوى السياسية التي طالبت الثوار بأن يبقوا في ميادين الاعتصام، رفضا لما جاء بالبيان، ليتم كسر قانون الطوارئ، وحظر التجوال، الذي فرضه البيان، إلى حين صدور تطمينات أو شيء من هذا القبيل، في التعامل مع المطالب الملحة، وعوضاً عن الالتفات للمشاكل المزمنة، التي تنخر في عظام البلد رجعت البلاد للمخاوف من القبضة الأمنية مرة أخرى يتخوف فيها الثوار من تجربة مصر السيسي، بقبضة أمنية حلاً للأزمات التي لم تحل إلى تاريخ اليوم. ثم إن ما حدث من تنحي ابن عوف، وإسناد الأمر للفريق البرهان، لم يغير من الأمر شيئاً، بل هو تغيير جنرال بجنرال آخر.
لعل ثورة السودان تكون أكثر وعياً من سابقاتها في رحلة التحرر من سلطانِ العلمانية، وعملاء الغرب، والذي أسقطت فيه دكتاتوريات عديدة، في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، بيد أنه اتضح جليا أن تغيير النظام، لا يكون بإزالةِ رأس النظام فقط، بل يجب تغيير النظامِ برمته، وما لم يحدث ذلك فسيتم الالتفاف على الثورة، وإعادة إنتاج النظام الطاغوتي مرة أخرى، ولأن من تؤول إليهم الأمور، لا يملكون مشروعا واضحا مفصلاً للحكم بالإسلام، كما في تجربة تونس ومصر، الذين عصوا ربهم باتباع التعددية والديمقراطية، واتباع أوامر الغرب المستعمر، فنزع ملكهم كأن لم يكن، فما بكت عليهم الأرض ولا السماء، ليس لأنهم طبقوا الإسلام، بل لأنهم لم يطبقوا الإسلام، فالإسلام دين منه الدولة؛ أحكام شرعية تصوغ الدولة والمجتمع صياغة تجعل من الحياة الإسلامية طراز عيش فريد متفرد، لا يشبه غيره. ولا يمكن الوصول لتحرر كامل من الغرب الكافر المستعمر وعملائه في بلاد المسلمين، إلا بالعمل الجاد لاستئناف الحياة الإسلامية، باقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي أظل زمانها وآن أوانها.
رأيك في الموضوع