تُعتبر حرب الأفكار - بالنسبة للعليمين بحقيقة المُجتمعات - أشدّ فتكاً وخطراً من حرب المدافع والصواريخ، لأنّها تستهدف العقول والقلوب، وإذا ما فسدت العقول، وخربت القلوب، فقد سقطت أهم القلاع التي تحمي المُجتمع، وسقطت معها البلاد من غير قتال.
وأعداء المسلمين لن يتوقفوا لحظة عن مُحاربة الإسلام، وعن الاستمرار في شنّ الحرب الفكرية على المُسلمين، ومن يقول بغير ذلك فهو إمّا أحمق جاهل، أو عميلٌ مُنافق، والنصوص الشرعية القطعية تؤكد ذلك، قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النصارى حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، وقال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كثيراً﴾، وقال سبحانه: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾، فهذا العداء، وهذه الحرب التي يشنّها الكفار على المسلمين، وعلى الإسلام، هي من الحقائق ومن البديهيات.
إنّها حرب شعواء شاملة يشنّها الكفار على الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، ويمكن تحديد خمسة محاور رئيسية يستهدفها الكفار أكثر من غيرها، ويُرّكزون فيها عليها، وهي: العقيدة والدولة والشريعة والجهاد والمرأة.
أمّا العقيدة فلأنّها أساس الدولة والفرد والمجتمع، وأساس تكوين العقلية والنفسية، وأساس الدستور والقوانين، وبالمجمل لأنّها أساس كل شيء في حياة المسلمين، واستهدافها بالهجوم لا يُراد منه تبديلها، وإحلال غيرها محلها، فهم أعجز عن مُجرد التفكير بذلك، بل استهدافها يعني فصلها عن الحياة اليومية، وإبعادها عن الحكم وعن السياسة، فهم يريدونها عقيدة روحية لا تتصل بالرابطة التي تربط الناس بها، ولا تؤثر على السياسة والقتال، ولا على العلاقات والأنظمة.
يُريدون أن تكون الرابطة بين المسلمين رابطةً وطنية أو قومية، لا مكان فيها للعقيدة، ويعملون في إطارها على إسقاط النصوص القطعية التي تتحدث عن العقيدة كرابطة أو تجاهلها، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فلا تكون العقيدة أساس الولاء والرعوية والارتباط، وإنّما تكون القومية أو الوطنية هي الأساس، كما ويتم تعطيل النصوص الكثيرة المُتعلقة بهذا الخصوص، كقوله عليه الصلاة والسلام: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهَا، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً» (رواه البخاري).
وأمّا الدولة فيريدونها دولة مدنية تجمع كل ساكنيها برباط الأرض التي رسم حدودها الكافر المستعمر بصرف النظر عن الدين، فلا يقبلون بدولة الخلافة التي تُطبق أحكام الإسلام، وتلتزم بالكتاب والسنة، فالذي يحكم الدولة عندهم القوانين الوضعية المأخوذة من القوانين اللاتينية والجرمانية مع تطعيمها برائحة الإسلام، وذلك لكي لا يتحد المسلمون في دولة واحدة، بل يظلون منقسمين ومتشرذمين في دول عاجزة ضعيفة تابعة للكافر المُستعمر لا تقوى على البقاء من دون دعمه.
وقد عرض الكفار على المسلمين في هذه الأثناء ثلاثة نماذج عصرية لشكل وصفة الدولة التي عليهم أنْ يختاروا إحداها، ويقبلوا بها:
1- نموذج دولة الخنوع والانبطاح والتبعية المُطلقة للكفار المُستعمرين، وتُمثّلها السعودية.
2- نموذج دولة المُقاومة والمُمانعة والدجل، وزرع الفتنة المذهبية، ودعم الحكام الطغاة كبشار الأسد، وقهر إرادة الشعوب، وتُمثّلها إيران.
3- نموذج دولة النفاق والتلون التي تتمسك بالعلمانية رسمياً كنظام للدولة، مع السماح بالتدين الفردي، بينما تتلوّن سياسياً بوجوهٍ عدة، وتُمثّلها تركيا.
وأمّا الجهاد في سبيل الله فلا يطيقون سماعه، ويريدون تحويله إلى مُفاوضات واستسلام للدول الكافرة، بل ويعتبرونه إرهاباً وتطرفاً، مع أنّه الطريقة الشرعية الوحيدة لحمل الدعوة الإسلامية، ومع أنّ وجود الأمّة الإسلامية ذاتها يعتمد على وجود الجهاد، ولا عيش للأمة بعزة وبكرامة إلا بالجهاد، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلّوا.
وأمّا الشريعة فيمقتونها ويعتبرونها مصدراً للتأخر ورفض (الحداثة)، ويرون فيها البديل الحقيقي الذي يمنعهم من تسويق قوانينهم الوضعية الفاسدة على المُسلمين، مع أنّها تُمثّل الأحكام الشرعية التي على الأمُة أنْ تلتزم بها في جميع شؤون حياتها، فيتقيد المسلم والدولة بالأحكام الشرعية في كل الأفعال، وهذا هو سبب نيلها حظاً كبيراً من سهامهم المسمومة.
وأمّا المرأة وهي المحور الخامس المُستهدف فيُريدون إفسادها بزخارف الحضارة الغربية الزائفة، لأنّ بإفسادها يتم إفساد المُجتمع بأسره، فهم يُريدون تحويلها إلى مُجرد سلعة مُتاحة للجميع، فتُعرض أمام المُستهلكين في الطرقات، وهي ترقص، وتدبك مع الرجال، ويُسمّون ذلك ثقافةً وتقدّماً! ينشرون العهر والرذيلة في كل زوايا المُجتمع تحت ذريعة تمكين المرأة ومساواتها بالرجل! وتتوّلى الأنظمة الحاكمة العميلة القيام بهذه المُهمّة بكل ما تملك من أدوات للتخريب والإفساد، وبتوجيه وتشجيع مباشر من الدول الكافرة، ومُنظماتها المدنية التي تنتشر في أوساط مُجتمعاتنا بكثرة، ولقد انتشرت ظاهرة رقص النساء والرجال في الميادين العامة والنوادي والساحات في فلسطين والأردن وسائر البلاد الإسلامية بسبب تبني الحكومات الفاجرة لهذه الظواهر المُنحطة.
هذه هي الحرب الفكرية الحقيقية التي يشنّها الكفار باستمرار على الأمة الإسلامية، وهذه هي أهم محاورها، فما هو المطلوب للتصدي لها والوقوف أمامها بصلابة؟
إنّ حمل الشباب للدعوة الإسلامية بالطريقة الصحيحة التي علّمنا إيّاها رسولنا الكريم e كفيل بانتصار شعوب أمّتنا الإسلامية في هذه الحرب، فحمل الدعوة أولاً بالتثقيف المُركز من خلال الدروس والمحاضرات والخطب ومُناقشة الناس في كل الأماكن حول هذه المحاور الخمسة من شأنها أنْ تُحصّن جبهتنا الداخلية، لأنّ ذلك ينتج عنه رأي عام مُنبثق عن وعي عام يكون بمثابة السد المنيع أمام ذلك الغزو الفكري، والمسألة لا تحتاج أكثر من ضخ الأفكار الإسلامية والآراء الإسلامية المصحوبة بالأدلة والقناعات لإيجاد الجو الإسلامي العام الذي يمنع تسلّل الأفكار الأجنبية الدخيلة على مُجتمعاتنا.
وهذا العمل يتطلّب الدخول في صدام فكري وكفاح سياسي مع الأنظمة العميلة المأجورة من قبل التكتل السياسي الإسلامي الواعي الذي يقود عملية التثقيف. وهو الذي يهيّئ هذا العمل أيضاً للاتصال بأهل القوة والحل والعقد لطلب نصرتهم، والمُساهمة كلٌ بحسب قدرته وإمكاناته وظروفه في عملية قلب الأنظمة العميلة، وإقامة دولة الإسلام على أنقاضها، ليكتمل بعد ذلك قيامها بعملية مُواجهة كبرى ضد قوى الكفر المُستعمرة فيُزال نفوذها، وتُلاحق في عقر دارها، وتُحمل دعوة الإسلام إلى كل أصقاع الأرض لإخراج الناس من ظلمات الكفر والجاهلية إلى نور الإسلام وشرعه وعدله.
رأيك في الموضوع